دُرُوبُ الفِرَار







إليك
يا شرود
يا حبة الثلج على الرخام الحزين
يا نسمة البحر المغسولة بالندى
لا تسقطي!
إليك، وحدك
يا حبيبة أسكَنَها جموح الخيال دمي
لا تسقطي! قبل أن ينتهي المشوار.










مع هذا
ولا مرة شعرت أنني حي مثلما أشعر وسط هذه المجزرة
ولا مرة شعرت بالحرية مثلما أشعر وأنا في قبضة هذا الكابوس.


عندما أسأل ذاتي مقلداً القديس أغسطينيوس : متى يا رب كنت بريئاً، لا أستطيع لجم نفسي عن سؤاله كذلك: ومتى يا رب كنت مذنباً؟


أنسي الحاج










الجزء الأول

1
    جرّوني من شعري. سحبوني على الرخام ارتفعت ستائر البيوت الملونة حولي.. وخرجن صائحات.
-كافرة!. ملعونة!.. حطب جهنم!..
بدا شرطي قادم.. خلفه آخرون.. تكاثروا حولي.. أحاطوا بي صارخين. وقتها.. رأيت الشمس تهوي! حارقة، كالحة، تفقأ عيني.. وأظلمت الدنيا وأحرقتني الشمس بينهم.

    لا!..
لا يا شمس الماضي الظالمة!
لا يا شمس الماضي المطلّة من القضبان!
لا تعودي
أُغربي عنّي!
فقد احترق الرأس من زمان.
لا يا شمس الفضيحة والوجع الكاوي
بعيداً عنك في عالم التخدير والضباب استرحت
سرت شوطاً في دروب النسيان.
فلم الآن تطلين؟
اليوم! سأخرج! وأعود إلى العالم الذي طردني.
علّ سكينة التخدير التي حقنت، تحميني منك، وتكون خيمتي وملاذي في طريقي إلى المدينة.
ولكن.. هل يمكن أن ألغي عمراً من الذاكرة؟ وأنسى صرير الأبواب الثقيلة وفحيح الأقفال والمراتيج على عنقي؟
هل يمكن أن أنسى حريق المدينة، وآثاره ما زالت وشماً على الجسد والروح؟
البارحة قالوا: غداً تخرجين.
وها هي الشمس تتقد في السماء، مخيفة، كالحة، متربصة، فاتحة الأفواه تنتظر! والسماء –كلها- تشع بضوء ساطع موجع.. تنتظرني.. أم تراها تنتظر بقاياي؟


    هربت شرود من مشهد الشمس وعادت تحتمي بالفراش. تسلم الجسد لطراوته البيضاء. حقيبتها على المنضدة الصغيرة يسار النافذة. منها تبدو ذؤابات أشجار السرو القاتمة، ترتفع شامخة في السماء، والباب مغلق على الجدران الرمادية العارية.
ومع ذلك، تتسلل إليها روائح الأدوية والكحول وحقن التخدير ضمادات جراح الذاكرة، وصدى أنين مسترسل بعيد.
أخيراً، اعتادت كل ذلك. اعتادت القضبان ووخز إبر النسيان والأدوية المخدرة للذاكرة والقلب والعقل وعاد إليها الهدوء. ولكن هنا، بعيداً، في عالم قصيّ معزول، بين الأشجار الهرمة الصامتة والوجوه اللامبالية الباردة.. ولكن، حين تعود إلى العالم، هل يمكن أن تواجهه بهذا البرود؟
أمس، التفوا حولها. تدارسوا أمرها. ربّت كبيرهم على خدها. ابتسم الآخرون. قرروا أن الجراح التأمت وسمحوا لها بالخروج.. ولكن، هل تلتئم جراح الروح؟



    -أأنت بخير؟ هل أساعدك؟
فاجأتها الممرضة ترمي سؤالها وهي تفتح الباب. لم تنتظر الجواب. اقتربت من الفراش. امتدت يدها إلى الأوراق المبعثرة، وقد تساقط بعضها على الأرض، تعيدها إلى الدفتر المفتوح.
ارتفع رأس شرود. امتدت يدها تمسك الدفتر، تدنيه خائفة إلى الصدر.

    -لا! سأرتب أدواتي بنفسي.
-إذن لا تنسي أدويتك
-لن أنسى.. شكراً
وهل أنسى سلاحي ضد الذاكرة؟
ابتسمت لها الممرضة وخرجت مسرعة. انتبهت إلى أنها لم تحكم إغلاق الباب.
شهر مرّ.. شهران.. أو أكثر.. لم أعد أذكر، منذ أتوا بي ذاك اليوم اللاهب.. أعمت الشمس السوداء عيني.. جروني من شعري على السلم إلى صحن الدار.. جروني من شعري حتى السقيفة.. أخرجوني لا أدري من رمى بي في القسم الاستعجالي بالمستشفى. في مكتب الطبيب، كانت عيناي واقفتين.. وشعري شوك.. والإبر الواخزة في كل مسام رأسي.. والنار فيه تشتعل.
كانت أعضائي مقطوعة ضائعة.. والطبيب يحاول الفهم حين دخلت الممرضة. دعته لأمر عاجل.. ترك يدي. رأيتها تسقط بجانبي.. تتدحرج على الأرض.. تنتفض والمعصم مسود الزرقة.. نهض عجولاً وأغلق الباب. وترك يدي على القاع. ظلت الممرضة واقفة ترقبني بصمت. كنت خائفة وحيدة أرتعش.. انتبهت عيناي الواقفتان إلى النافذة المقابلة مغلقة. والشمس، هناك تذوي قريباً من الأفق. تتركني للظلمة وكوابيس كل ليلة.
كنت خائفة مطاردة ووحيدة. والممرضة صنم. والشمس راحلة. وأصواتهم تأتيني، تلاحقني. تماماً كما كنت في بيت المدينة العتيقة.
تماماً، كذلك الصباح الأسود، كانوا حولي في صحن الدار. وجوههم مشدودة. عيونهم استطالت. برزت من المحاجر. عيون قطط عملاقة شرسة. لوحت الأذرع المشعرة والمغطاة.. ارتفعت المخالب.. حتى المحجبات، رفعن الستائر.. خرجن من الغرف.. اختلطن بالرجال.. رمين أقنعة السكون والاستسلام.. صرخن حولي وفوقي.. لم يعد صوت المرأة عورة!
تدلت خُمُرهن السوداء والكفنية على وجهي، تجرحه بشفرات حادة لا ترى.. وأنا مرمية على الأرض.
لم أكن أفهم شيئاً.. كان الألم الفظيع يغرس إبره في الرأس. بدا لي رجال شرطة قادمين. التفوا جميعهم حولي.. كنت وحيدة على الرخام الذي ألهبته الشمس.. شاهدت العيون حولي تتفجر بالدم.
أردت الهرب من الحلقة المغلقة.. لم أجد رجليّ.. سقطت في مكاني.. شاهدت من خلال الضباب وجوههم، وجوه ذئاب مسعورة تنحني علي صارخة بين ألسنة النار.. تهاويت على الأرض، والهدير يغرقني في الظلمة.

    كل ذاك الرعب عاد، بعد أن رموا بي في مكتب الطبيب، وقد خرج لأمر عاجل. وقتها، شاهدت النافذة تودع الشمس، وسمعت أصواتهم تعود.. تأتيني من الباب المغلق عاوية مرعدة.
- كافرة بنعمة ربنا!.. مجرمة!.. ملعونة!.. حطب جهنم!..
تعالت الأصوات من الجدران.. من السقف.. من الثقوب.. من مسام جلدي.. التقطت أعضائي.. وركضت صوب النافذة. لم يبق غير الموت! فتحتها. بدت الأشجار الهرمة الداكنة تحتي والشمس أمامي ترحل ببقايا الضوء. اندفعت إليها.. وانثنى جسدي إلى الأمام.. إلى السماء الرحبة.. دعوت الموت إلي لا يجيء! صرخت بكل أوجاعي أرميها للدنيا.. ولكن، بترت الصرخة فجأة. أمسكت أياد فولاذية رجلي. جذبتني إلى الخلف. تخبطت. ارتطم جبيني بالحاجز. سقطت على وجهي. تفجر دمي. شدوني بعنف إلى طاولة باردة. لم يبالوا بدمي. انغرزت حقنة مورفين بساعدي. وانهال الظلام.
حين أفقت، وجدتهم رحلوا بي من مستشفى المدينة وجاؤوا بي إلى هنا.
وجدتني هامدة ذاوية في هذه الغرفة الصغيرة. غابت الشمس أياماً. وظل اللون الوحيد الذي يواجهني، رماد الجدران والخضرة الداكنة لأشجار السرو البعيدة، يقطعها سواد القضبان على النافذة الموصدة. وأصبح الباب يغلق علي دوماً بالمفتاح.

    الآن، نزعت الإبر التي كانت تثقب الرأس. عادت لي أعضائي. عدت أسير وأجلس وأخرج إلى الرواق، أقف في الردهة أمام حوض الأسماك الملونة وأعود. آكل وأنام بهدوء واستسلام. لذا قرّروا أن أخرج من هنا. ولكن، ما انكسر إلى ألف قطعة، هل يمكن أن يجبر حقاً ويعود كما كان؟

    الآن، ها أنا أرى بوضوح دون أن يلفني الضباب وأسمع دون أن يحطم رأسي الهدير. فهل يمكن أن أعود كما كنت، شرود الراضية الحالمة المثالية؟

     زمن انقضى وأنا في عزلة عن عالم آكل مأكول. واليوم، يفتحون لي الباب لأخرج إلى هذا العالم، بعد كل ما مضى.
فهل تراني ما زلت قادرة على العودة إلى نفس الجدران، نفس الوجوه، ونفس الأزقة الضيقة الآسنة؟ في مدينة يموت فيها الصوت ويندفن الأنين! مدينة تتقن لعبة ابتلاع أبنائها والنواح عليهم بعد حين!
أعود، بدون زهر، بدون أمير.. بدون من لامسوا نبض دمي
هل يمكن أن يمنح العمر حياة أخرى على أنقاض أعوامي الخمسة والعشرين الماضية؟
أم علي أن ألغي الوعي والإرادة لألغي الذاكرة؟ وأدمن أقراصي وأستسلم للتيار؟






    كانت الشمس تلتهب وشرود أمام النافذة في منامتها القطنية الطويلة والقضبان واقفة في وجه الأشجار العالية الممتدة أمام المصحة.
لم يحن أوان الزيارة بعد والحركة ما زالت هادئة في الممشى العريض المحفوف بخضرة الشجيرات المشذبة مكعبات عالية، الممتد حتى البوابة الخارجية.
اليوم، ستخرج شرود من تلك البوابة المظللة بسعف النخيل وأشجار الكاليتوس العالية.
لهب الشمس يوجع عينيها فتوليها ظهرها.

    -متى يمكنني الخروج؟
-عندما يأتي السيد خالد الحديدي
أجابتك الممرضة عندما سألتها هذا الصباح.
أولتك ظهرها دون اهتمام بالاستنكار الذي فاض في عينيك. البضاعة المكسورة سيستلمها صاحبها بعد الترميم!« وهل أنت غير بضاعة –مكسورة-؟! تُرد إلى أصحابها؟

    حين ضمّ الثوب الصيفي الأزرق جسدها، وألقت في الحقيبة المنامة، التقت بوجهها في المرآة المعلقة فوق المغسلة الصغيرة في الركن.. بياض الثلج يتباهى نقاء فوق زرقة الفستان الداكنة.. لين وعذوبة في الملامح الدقيقة. ولكن، أين هو ذاك الألق؟ أين هو ذاك البريق؟
بدا لها وجهها كطيف بعيد، من عالم قصي، لا يلامس، وصدى أغنية قديمة لعبد الوهاب يعود يخترق الماضي، يرفرف على المرآة.
الصبا والجمال ملك يديك        أيّ تاج أعز من تاجيك؟
كان خالد دوماً يرددها.
ابتسم الطَيْف ساخراً في المرآة. وارتفعت يد نحيلة ترسم خطين من السواد حول العينين العسليتين الذابلتين. وتسللت الأصابع إلى خصلات الشعر الطويل وتركتها تتهدل متموجة على بياض الكتفين العاريين. ثم خرجت شرود إلى الرواق تنتظر قدوم السيد خالد الحديدي.

     جلست في الردهة الواسعة، حيث سمّرت كراسي الانتظار إلى الجدران. استسلمت لمقعد قريب من الباب. الهدوء يخيم رغم وجود بعض المنتظرين. أمامها، بدا حوض الأسماك المضيء، تنساب فيه السميكات الصغيرة الملونة بين فقاقيع الماء والأعشاب المائية الغضة الراعشة. لذّ لها أن تبحر مع السميكات، تمضي إلى بحرها البعيد، تغرق في موج يغسل كل الأحزان.

    .. منذ متى لم تر البحر؟ جرفها حنين لا يقاوم. تاهت العينان. أراحت ظهرها ورأسها إلى الكرسي. أسدلت جفنيها، غاصت لحظات في الزرقة اللامحدودة. زرقة تمتد بلا نهاية، صافية، رقراقة، هائمة إلاهية. زرقة ضيعتها في دخان المدينة.
مزّق الزرقةَ الإلهية صوت مفجوع متعجل: »أين الطبيب؟« فتحت عينيها وقد شاهدت شاباً مضطرباً يتقدم مسرعاً من ناحية الباب سائلاً الممرض المار في الرواق.

    أعادها الصوت إلى جدران الردهة المغلقة والأسئلة المتوجسة الخائفة وتأوهات تفلت من حين لآخر من الصدور.
فجأة، تسمرت عيناها على الباب البلوري الخارجي. تلاشى حوض الأسماك من أمامها. تلاشت الزرقة والمنتظرون والممرضون.
ها هي أخيراً تلك القامة العالية الشامخة في بدلتها الرمادية الداكنة تبدو من بعيد. تخترق الممشى بين خضرة الشجر.
رغماً عنها، رغم القرص الذي تناولته هذا الصباح، رغم مستنقع البرود والاستسلام والاسترخاء الذي أغرقوها فيه، فقد أخذتها رجفة مفاجئة. توالت الرجفة تنفض الأكفان ليسري تيار كهربائي خافت في عروقها، وهي تلمح ذاك الوجه القمحي العالي قادماً والباب البلوري العريض ينفتح له.. يتقدم وطيف ابتسامة مترددة على شفتيه.
ذاك الوجه الذي صاحب أيامها ولياليها وارتسمت قسماته على أوراقها وأشعل الحياة فيها وأحرقها. ها هو يقترب، كما كان أول ما عرفته، واثق الخطوة، يمشي ملكاً، ظالم الحسن، شهي الكبرياء.. يقترب. يمدّ يداً حارة رغم خشونتها. لقد آن أوان الرحيل!
وقفت. انتظرت أن يبدو خلفه أحد.
حين انغلق الباب البلوري، تجاسرت على السؤال.
-أين أمير؟
ابتعد وجهه، همهم دون أن يلتفت
-لم يعد بعد!.. هيا بنا!
ابتلعت غصة. سحبت رجليها بصعوبة لتعود وتدخل مع خالد الممر الطويل.















    بتؤدة، تجاوزت شرود الباب البلوري، بعد استكمال إجراءات الخروج. بعد تردد، أمسكت يد خالد الحديدي بيدها الباردة تساعدها على الخروج.
واجهتها الشمس من جديد. ثقبت عينيها، ترمي بسهام الماضي اللاهبة. ارتفعت اليد المحيلة إلى الجبين، تحجب حدة الشمس، وانخفضت الرموش الطويلة السوداء.
على مهل سارت، تنزل الدرجات، تتابع ظلين يسيران في صمت نحو سيارة البيجو الرابضة في منعطف تحت شجرة عجوز.
حين استسلمت لمقعدها، تقدمت أصابعه تدير أقفال المذياع، ارتفع ذاك الصوت الساحر الشجي:

يا فؤادي
لا تسل أين الهوى
كان صرحاً من خيال
فهوى
اسقني واشرب
على أطلاله
وارو عني طالما الدمع روى


بسرعة، أدار خالد الإبرة. وضاع الصوت الشجي في نغمات سريعة ركضت مع سواد الطريق.












2



    سأكبر وألحّن لك قصيدة !
تلتوي الطريق وتنعطف، ترتفع وتنحدر، وتطير الأشجار على جانبي سيارة البيجو العائدة إلى مدينة الشمال تحت السماء التي بدأت تغيم.

سأكبر وألحّن لك قصيدة !

    آه يا أمير!.. لمَ تعود الآن كلماتك! كلماتي! تعيد أحلامنا القديمة؟! لم تعود الآن على درب عودتي، رغم وصفة النسيان؟
نحلم أن نرقص نحلم أن نطير ! نحلم أن نتحدث ونتجادل بصوت عال، لا على أوراقنا المحترقة أو في صدورنا الملغومة. نحلم أن نمدّ البحر والسهل، وأن نرفع رؤوسنا للعرش! أحلامنا تستباح! تكسرها عصيّهم المرفوعة، تعجنها سياراتهم المتربصة.
    أحياناً، أصبحنا نهرب إلى كهوف النسيان. نشرب ونكسر كؤوسنا. ثم ننهض والحلم يرف دوماً بين الضلوع. جذوره تتشبث بأعماقنا. نعود نرويه من أشعارنا وأناشيدنا. نتركه يمدنا بالحياة قبل أن يتحوّل كابوساً ويقتلنا. ولكنّنا، لا! لن نستسلم! سنظل نحلم مهما صحونا على كذب أحلامنا.. رغم ذلك، يستفزنا السؤال.. ما الذي جرى للمدينة؟ أين اختفت الأفجار المضيئة؟ أيّ أخطبوط مخيف لا مرئيّ طوّق مدينة البحر والنوارس؟
    حتى شرود المتألقة الرائقة الضاحكة للدنيا على الدوام صارت تهرب إلى مغاورها، تموت على شفتيها اللغة. شرود صارت تربط جبينها عصابة. يقطر شعرها الجميل زيتاً، ابتغاء الشفاء. وجهها في لون ليمونة ذابلة. تبلع كل الأقراص المسكنة للصداع والألم لا يمضي. يعود دوماً يغرقها في الصمت شرائط الغناء اختفت عندها. أنغام عبد الحليم وكوكب الشرق التي كانت تعشق، انقطعت وصارت صدى لأيام قديمة.
    حتى زهر، نحيلاً ظل، لا ينمو. يصرخ دوماً.. من آلامه، أو من آلامها. عمّتي عائشة، لم تعد قادرة أن تفيدها بشيء. فقط، تقرأ بعض السور وهي تمسح على جبينها عندما تزورها، وتبتهل إلى الله عند كل صلاة أن تعود كأيامنا الماضية. ولكن الأيام الماضية لا تعود.

    أوراق أمير، كلماته! تعود تخترق أكفان المهدئات والمخدرات التي لفّوا بها الجسد. تلك الأوراق التي خبأتها بين دفاترها، ذاك المساء الأسود جوان 1980. بعد أن هرّبتها عمتها عائشة مع ما وجدت عندها من كتبه ودفاتره.
كان حدس العجوز صادقاً. في الغد جاؤوا. قلبوا كل ما في البيت رغم توسلاتها.. والجرح اتسع وغار، وأغرق المدينة.
يومها، كان السؤال يتردد.. كاوياً:
-أين أمير؟.. أين أمير؟
وخالد يردّد: - لم نعثر عليه بعد!.. لم نعثر عليه
والآن، ها هو نفس السؤال – في طريق العودة إلى هيبو – يقف بينهما، نقطة استفهام كبيرة سوداء تليها نقاط الحيرة والصمت.. ونقاط استفهام أخرى تتتابع غائمة.
-وأين؟.. أين.. زهر؟
    بدا لها صوت خالد يلقي السؤال.. هل نطق حقاً؟ أم عاد الوهم يلهو بها؟.. أمسكت جبينها..
    «لا يا اوجع الماضي! لا تعد! الطريق ما زالت طويلة! والمدينة في الانتظار»!
    أغمضت شرود عينيها، واستسلمت للريح تطير بالسيارة الهادرة. ترفع غلالة النسيان عن أوراق أمير المهربة.

    فتحت باب غرفتنا، كانت توليني ظهرها ووجهها إلى النافذة. اقتربت. رفعت رأسي إلى وجهها. كان الدمع يبلل خديها. دعوتها. لم تجبني. كنت أعلم أنها معاقبة لسبب أجهله، وأنّها حين تعاقبها أمي، لسبب ما، ترفض دخول المطبخ وتضرب عن الطعام كامل اليوم. أتيتها بقطعة خبز. ضمتني دامعة. تركتها لصمتها وخرجت.
فتحت المذياع. بحثت عن أغنية لعبد الحليم في إحدى المحطات. ارتفع صوته. كنت أحاول أن أهديها سلوى ما. لم أجد غير الخبز والأغنية.
    كانت تقول «سأكبر وألحن لك قصيدة.» فاجأتها مرات تحفظ أشعاراً وتغنيها. أحياناً تدعوني لحفظها. أغنيات لم أكن أعرفها من قبل.
كانت تحلم دوماً بامتلاك عود أصيل وتعلُّم العزف. وحين عرفت خالد، توهّج حلمها. لقد وعدها خالد بعود أصيل هدية بعد الزواج.

    ما الذي يذكرني بتفاصيل الماضي الصغيرة؟ لِمَ تعود الآن بالذات؟ ألأني رأيت في عيني شرود – حين زرتها اليوم – دمعة؟ ألأنها أولتني ظهرها واحتمت بالصمت كما كانت تفعل صبية؟ أم لأن الغناء راح، ولم أعد أسمع الألحان التي تعشق في بيتها؟
افترفنا اليوم، وكل منا يلملم أشجانه ويلتحف الصمت.

    الآن! لم نعد أطفالاً!
صرنا نكابر! نخفي أحزاننا في بؤر الصمت. نحاول أن نلبس أقنعة الرضا حتى نختنق بها. ولكننا نتشبث بما تبقى لنا من أنفاس الحياة ونحاول أن ننهض من هاوياتنا. نكسر أقنعة الرضا. ونعب من الهواء قبل أن نموت. ونصرخ صرخة الولادة والبعث.
    ولكنهم يخرجون من كل منافذ المدينة، من بين صخور البحر، من الأزقة والكهوف اللعينة العطنة. يخرجون ليسكِتوا صرخة الولادة ويغلقوا منافذ السماء
ولكننا لن نتركهم يغلقون السماء.
    حذّرني خالد من المجازفة. نبهتني شرود. ولكن القطيع يساق إلى المذبح، وأنا لم أرضخ! لن أضع رأسي تحت السكين! لن أساق مع القطيع
    حتى شرود، ابتعدت في غفلة مني. مضت مع القطيع.. هجرت غاباتنا. تركت انطلاقنا القديم الجميل.. استسلمت بعيداً عن سحر اكتشاف الغابات. ومضت مع القطيع!

    منذ متى كان ذلك؟.. سنوات؟ أم دهور؟


3



     كنت في السقيفة. والمرأة البدينة الضخمة أمامي تمسكني من يدي. تضغط عليها بقسوة.
الزغاريد ترج الجدران. تطفو على الأصوات والنداءات وإيقاع الطبل والمزمار.
كان الدرج ضيقاً والمرأة البدينة تجذبني من يدي لصعوده، في موكب النساء وسروال الكسوة الأبيض المطرز العريض يفيض تبرجه، يملأ المكان، يلامس الجدارين المخضرّين المتقابلين. وعبق «الوشق» والجاوي والداد، يغمر ضيق الدرج. جذبت إحداهن السفساري الحريري من فوق رأسي. ولولت المرأة البدينة مزغردة، وهي تجرني من يدي السجينة ومن أطراف كسوتي الثقيلة إلى الأعلى.

    -خمسة وخميس! والصلاة على النبي!
جاوبتها زغاريد النساء من الطابق العلوي، من خلفي، ومن كل أرجاء الدار.

    كانت عيناي مسبلتين على رخام الدرج العتيق، على الحذاء الفضي يخطو بي. يرتفع بصعوبة لصعود الدرجات المثلمة العالية. و«الحنّانة» البدينة لا تترك يدي، وضوء السقيفة الباهت يبتعد، والدوران الحلزوني يستمر في الدرج الطويل، وحدة الزغاريد.. وغمامة الإغماء تغرقني.. تغرقني.
كان جسدي الهزيل المثقل يسقط، حين بدا أخيراً ضوء كاشف يغمر المكان.
زخات العطر على جيدي، على صدري، على كتفي، أيقظتني على غرفة نوم مضاءة وأريكة تحضنني، ترفعني وسادة رحبة مغلفة بالبياض اللماع.
كنّ حولي وقارورة العطر تغازل جسدي، وعلب الزينة المفتوحة تذكي ما خبا من ألوان وجه العروس.

    أكنت أنا تلك؟
أكانت تلك شرود؟


    حين أعددنني للحمام، على أهبة الخروج، أسرعت أمي مستدركة. فتحتْ أساورها سواراً، سواراً، خلعتها وأغلقتها على معصمي. نزعت خواتمها. وضعتها في أصابعي. تراجعت:

    -ماذا تفعلين؟.. لا أريد!.. ليس الآن أوان الحلي!!
ضحكت وزادت فعلّقتني بأقراط الذهب والسلاسل إلى المرآة على وقع الزغاريد.

    في مرآة الردهة، بدا وجه طفلة نحيلة تلف جيدها قلائد النساء. وفي زاوية المرآة، شاهدت أميراً يرمقني بصمت، ويغيب. قطّب جبين الطفلة في المرآة
زغردت النساء خلفي وهن يلقين السفساري الحريري على رأسي، ويقدنني بلطف بقبقابي العالي للخروج إلى الحمام. ولم أعد أرَ أمير الذي كان يتبعني.

    كانت فتاة أخرى نحيلة سامقة تأخذ مكاني، تسير في موكب النساء، بالقبقاب اللّماع الرفيع المحلى بتشابيك الفضة تصعد غصوناً مورقة مزهرة على الخشب المطلي اللماع، حتى القدم، و«التقريطة» الحمراء المخططة المسدلة على الوجه النقي، والسفساري الحريري المهفهف يحضن الجسد.

    دفعن الباب الخشبي الثقيل، غمرتني غمامة البخار الساخن وروائح الصابون وعطور النساء وأسرارهن وركض المياه الدافئة الجارية تحت الأقدام..

    تلقتني الزغاريد والصلاة على النبيّ وضوء الشموع المغروسة في «الطفل» المعطّر في السطل الفضي، يعلو الرؤوس.. لهبات عشرات الشموع تسبقني، تتباهى في غمامة البخار الساخن المنتشر في فضاء الحمام. والمرأة البدينة تقودني في صحن الحمام الداخلي. تسير بي إلى المقصورة الخاصة بالعروس. تدخل وتغلق الباب الخشبي الثقيل. وتظل أصوات الأسطل المرتطمة برخام الصحن وأحواض الماء والنداءات والزغاريد، والمياه تلاعب وتداعب الأجساد والمرأة البدينة تحاصرني في المقصورة الضيقة، تطلي جسد الطفلة الناعم «بالطفّل» المعطر بالعطرشاء، تغمره مرات بالماء الدافئ والزهر. تُعد الجسد البكر لوليمة الغد. كنت صامتة ورأسي بعيد. تركت الجسد البكر لهن يعلّمنه كل الطقوس.

    واهللوا
وكبّروا
تكبيرا
صلّوا على
محمد
كثيرا


    -جاء العريس! جاء العريس!!...
-جاء العريس!..
هلّل الأطفال القادمون راكضين وأنشدوا. عمّت الزغاريد ووقف الجميع. تداخلت الأصوات والأضواء والأشياء. تحركت الدنيا وماجت. وازداد ثقل الكسوة وتعب الأيام المزدحمة الماضية.

    حين شاهدتك داخلاً عليّ، ببدلتك الكحلية الأنيقة، وياقتك الناصعة البيضاء وربطة العنق الحمراء، هديتي لك، في عيد ميلادك.

    حين شاهدتك تقترب، أنيقاً جداً، شامخاً جداً، وشفتاك الممتلئتان تفتران عن بسمة فضية لألاءة في وجهك الأسمر الشهي، الشهيّ، عادت الدنيا تراضيني وتحضنني. تعلقت بك كل العيون. وأنت تتقدم، أخذت النسوة المزغردات تعبي وغربتي معهن. مضين وأغلقن علينا الباب.

    ربّاه! ربّاه! ما هذا الشموخ؟! وكل هذه الرجولة؟! أين كنت تخفينه عنا؟ ولا تقولين؟
هتفت زينب في قاعة المراجعة وهي تتأمل الصورة. وجعلت تقضم شفتها السفلى.

    -لو كان أمامي، لافتككته منك!
أضافت والإعجاب يفيض من عينيها السوداوين، يدعو بقية الصبايا للسؤال. كتمت ضحكي وهنّ يتخاطفن الصورة هامسات. حدجتنا القيمة بنظرة ناهرة
فأخفيت صورتك بين صفحات كتابي. وكتبت في مذكراتي:

    إذا وجدنا الحب، يمكن أن نبيع الدنيا
فالحب وحده يخلق الدنى
ويفتح كل الدروب

    اقترب خالد. أخذ يدي بين يديه، ساعدني على الوقوف، اقترب بي من السرير: منامتي الحريرية الناصعة البياض بتخاريم الدنتيل مهيأة فوقه.
    وقفت أمام مرآة الدولاب الكبيرة. الكسوة تشتعل تحت ضوء النجفة المتلألئة.
شاهدته في المرآة يقف خلفي، يفتح أقفال الصدار المطرز بلطف. يعود يواجهني. تنزل يداه بتؤدة إلى حزامي. يفتح العقد المتتالية لتكة السروال الثقيل بأصابع مدرّبة عارفة. تركه يسقط ببطء على الأرض. بقي عالقاً ضاغطاً بقسوة على كل رسغ من رجليّ.
انحنى. وضع ركبته على الأرض ويداه تأخذان رجلي. ترفعانها قليلاً. بلطف تنزعان الحذاء الفضي، تفتحان الكسوة الماسكة برسغي وتخرجان رجلي السجينة من كسوة العرس.
-أحكموا عقد تكة السروال! لا يجب أن تكون سهلة! على العريس أن يتعب قبل الوصول إلى العروس، فلها سبعة أسوار! قالت خالتي والنسوة يرفعن سروال الكسوة بصعوبة إلى خصري، ويضغطن.. حتى كادت تقف الأنفاس.

    -أحكموا عقد تكة السروال!!

    أجل يا شرود! من البداية كان يجب إحكام الإغلاق!
أحكموا غلق الأبواب!
أحكموا غلق النوافذ!
أحكموا غلق مسّاك الحجابّ!
أحكموا غلق الدروب!
أحكموا غلق السماء!

    أحكموا الغلق حتى يوشم الجسد وتوشم الروح! وحتى تعودي الآن، في السيارة المنطلقة على الطريق، إلى جانب خالد، موثّقة إلى مقعدك جسداً ذاوياً ملفوفاً في بياض ضمائد التخدير. ورغم ذلك، ها هي، لا زالت، تحت الضمائد، تحدث الأوشام.

أحكموا عقد تكة السروال!

    ضحكت من بعيد إحدى البنات.
-ألهذا ابتدعوا كسوة بهذه الضخامة والثقل؟ ليكون للعروس سبعة أسوار؟

    سقطت كسوة العرس أخيراً على الحشية الملقاة جانباً على الأرض. تناول منامة الدنتيل واقترب.. بنعومة ترك المنامة تنساب، تعانق مع أصابعه اللاهبة الجسد. وقف أمامي عالياً، عيناه ليل شاسع ونجوم متلألئة النشوة
أخيراً، أجدني
هذه أنا، شرود! وهذا أنت! قربي! كما عرفتك واثق الخطوة. تمشي، ملكاً، ظالم الحسن، شهيّ الكبرياء.. تفتح الحاكي لصوت الليل القادم.

ترتعش بيننا الكلمات
يرتعش الصمت
تتكلم أنفاسنا الحارقة

ونؤخذ طيفاً واحداً من النور مع النغم الساحر. وصوتها، ملكة الشرق، ينساب صادحاً، ساحراً.

هذه ليلتي !
وحلم حياتي !

.. .. .. .. .. ..

فاملأ الكأس
بالغرام وهات
بعد حين
يبدل الحب دارا
والعصافير
تهجر الأوكار ..

    لا! لن يبدل الحب داراً! ولن تهجر العصافير الأوكار! فليس لهذا الليل النوراني من نهاية معك!
هكذا، كنت أحلم، في ليلتي الأولى معك.
لا!.. لن تهجر العصافير الأوكار!



4



     كيف عرفتك؟ كيف التقيت بك وسرت خلفك إلى ملكوتك راضية مرضية؟ وإذا بك ترحل بأحلامي السابحة في البحار إلى امتداد الصحاري، وتتركني حافية القدمين أسير خلفك، ولا أدري أني أسير خلف السراب.
    كيف دخلت حياتي فجأة؟
كنت غارقة في كتبي وأحلامي، متوحدة مع موسيقاي وأنغامي، وإذا بي أرفع رأسي لأجدك أمامي، تغلق دفتي الكتاب، تخفت صوت الموسيقى، تسحبها بعيداً. تحيلها مجرد صدى لكلماتك.
لم أكن أنتظر ذاك اللقاء، ولم أكن أتوقع شيئاً من ورائه. فقد أتيت بيتنا في زيارة تقليدية للتعارف. كان يكفي معرفة سبب الزيارة، للنفور من الزائر الغريب. كنت أمتلك عالمي. لم أكن مستعدة لمنح نصفه لغيري. بمفردي يمكن أن أنحته وأعليه. بتلك الطاقة الجياشة الغامضة داخلي.

    حين دعوني للقائك، امتنعت. أعلنت انعدام استعدادي وإرهاقي الكبير. لم ينفع كلّ ذلك، فقد حفرت دروس الآداب والمجاملات والأخلاق على جلدي. بدؤوا يذكرونني بها، يعرّون ما وشموه، ويغسلون عني الأحلام والأوهام، حتى.. لان صخري.. وخرجت إليك.
    ماذا فعلت بي يومها؟
    وأنا ما زلت عند الباب، شاهدتك في قاعة الاستقبال. قامة النخل التي أطلت علي، وقفت لي تمد يداً ساخنة وبالأحرى وردة حمراء في غلاف السيلوفان، لون القمح المصهود بحرِّ الشمس في وجهك ويديك، خشونة الملامح العربية وجمالها، وحدّة الصقر في عينيك الساحقتين تتشبثان بي، أربكتني، والوردة الحمراء النضرة.
دفعتُ ضفيرتي الطويلة الملقاة على كتفي إلى الوراء. وتقدمت إلى أقرب أريكة.. وجلست، وفضولٌ ما يدفعني لتأمّل القادم الغريب المريد لجسدي وروحي وعالمي.
    أوهي رغبة خفية لا واعية في الخروج عن المعتاد والطيران خارج جدران بيتنا.
أو لعله شعور غامض أسبل عليك صورة الفرس المنتظر راكبه، ليكون به الإنطلاق إلى العالم الذي أحلم بنحته.
أو هي تلك القوة التي جذبتني آمرة، في عينيك القاهرتين، فكثيراً ما يعشق المرء قاتله.
أم تراه كلّ ذلك معاً؟! تركني أرفع إليك أجفاني وأنصت إليك. وإذا أنت تتحدث عن العلم والسياسة والأدب.. تسألني عن الكتب التي قرأت، وتعلن آمالك في إنسانة مثقفة واعية، شريكة حياة.
    لأول مرة، أنصت إلى رجل يطلب عقلي قبل جسدي ويتحدث عن الشريكة الإنسان.. أو هكذا بدا لي.
هل كنت هشة؟ غرّة؟ عديمة التجربة؟ لأترك بابي ينفتح سريعاً، وعالمي يطل عليك؟
كذا – ساقني، بلا وعي، سحر غامض لأنجذب إليك.. قامة نخل وشمس حارقة وسماء لذّاتها مغرية تجيش بالوعود.
في لقائنا الرابع، كنت قد قبلت عرضك. فقد وافقتَ على كل شروطي. ووجدتني أحبّك، وأود لم تحترق أيام الأسبوع الأخيرة لألقاك يوم الأحد.

    انفتح زهر اللوز في بيتنا، وانفتحت كل القلوب على بهجة جديدة هي أنت. ضيف جديد يهلّ على دنيانا، آخر الأسبوع. يستعد له الجميع. تُحضر أمي الحلويات لأجله. تعدّ وتنوع المشروبات. تهيء البيت لاستقباله. ولا يذهب أبي إلى مكتبه – رغم حبه الدائم للعمل، حتى أيام الآحاد – ولا يفتح عشيتها كتبه ودفاتره.
وأستحم أنا، قبل حلولك. ألبس أحلى فساتيني. أنوّع لك تسريحاتي ومواضع ضفائري، وأقف طويلاً أمام المرآة.
وننتظرك. جميعاً ننتظر..

-محدث لبق، آسر الكلام.. كلامه يسحر، وأدبه يأسر، إضافة إلى كونه فرعاً من عائلة أصيلة، ورئيس مصلحة بشركة معروفة كبيرة.. ماذا أكثر؟! تبارك الله

هتفت عمتي.
-تبارك الله! اللهم صلّ على النبي!

    أمير فقط، لم يعلق بشيء. بدا صامتاً وحزيناً وعتاب مكتوم في عينيه. كان يوليني ظهره ويخرج من الغرفة كلما أقبلت. وأنتبه أحياناً إلى أنه ينظر إلينا من بعيد، من أقصى الردهة، بكل عمق عينيه الليليّتين قبل أن يغيب.

    في عشية يوم متعب، كنت مستلقية على فراشي. دعوته إلى أن يريح ظهري من أتعابه بتدليك من يديه الصغيرتين كما تعوّد، فيأتيني، يقف قربي، ويبعث بتلك الحركات الدائرية المتواترة الراحة والانتعاش في ظهري المتعب من الإنحناء على الدروس. يلبي دون أن يطلب جزاء. ويبدو وجهه الطفولي السمح راضياً سعيداً، وهو يقوم بعمل لأجلي وكأنه يثبت بذلك حبه لي.
    اقترب أمير قليلاً، ثم توقف، ورمي سؤالك في وجهي:
-شرود! ألم تقولي أنك ذاهبة إلى الجامعة؟ وستدرسين الموسيقى وتعدين الدكتوراه؟
اندهشت لسؤالك، رفعت رأسي المغروس في الوسادة والتفت إليه.
-لم هذا السؤال؟ طبعاً! سأذهب إلى الجامعة وسأدرس، وسأتعلم العزف على العود. وألحّن لك أجمل القصائد!
-لا! أنت ذاهبة إلى خالد!.. إلى خالد لا إلى الجامعة!
.. أنسيت ما كنت تحدثينني به؟
    رغم النافذة المغلقة والستائر المسدلة، فقد بدا لي في عينيه –وقتها- شعاع داكن حزين لملاك صغير يحرس أيامي المقبلة.
مددت يدي إليه، أمسكت يده الصغيرة وأدنيته مني وأنا أبتسم للوجه الحبيب.
-كيف أنسى يا أمير؟! سأذهب إلى العاصمة في سيارة خالد.. سأتعلم السياقة. وبعد سنوات ستكبر وتلحق بي. خالد موافق على ذلك. بل هو الذي شجعني.. سيساعدني. لن يكون لنا أطفال إلا فيما بعد! لن أترك طفلاً يجيء ويشغلني عنك!

    صمت. وظل الملاك الصغير يحدق في عيني، والشعاع الداكن غير مطمئن، يكاد يمطر في عينيه. ابتسمت له. مررت يدي على شعره الأسود المسترسل على الجبين.

-هيّا! أرح ظهري الآن.

    وعدت أغرس رأسي في وسادتي، بينما أصابعه تتحرك تحت عنقي، تنحدر مع فقرات ظهري، تزيل عني بعض الألم. كنت أبتسم ووجهي في الوسادة. فقد حسبتها غيرة طفل يكاد يخطو إلى دنيا الشباب على أخته الحبيبة.
.. أكان يخشى علي من خالد؟ من نفسي؟ أم من خداع الدنيا؟! لم أهتم بالجواب، ونسيت سؤال أمير.
أجل نسيت.. أو نسي أمير. فقد وثقت بك. بالدنيا، وبالوعود. وعرفت أنت كيف تستميل أمير، تهديه ما يحب من الكتب والقصص. تدعوه للحديث كلما أقبلت. تغريه بالنقاش.
    بدت قدرتك على الإقناع توحي بأن لك طاقة غريبة من السحر، أو من الغيب المجهول، وإذا أنت إذ تهلّ، الكوكب المشعّ الذي يحوم حوله الجميع. كنت أتأملك تدخل بيتنا الهادئ، تحييه. تضيء كل أنواره. تبعث فيه السرعة والحركة والضحكة الرائقة. وملكاً للكلام تصبح. وإذا أنت تحاور الجميع في السياسة والأدب والعلوم وفي أحوال الدنيا. ترسل نكاتك التي لا تنتهي، فتخف القلوب وتصفو في حضرتك.. لم ينج من أسرك أحد.
    وأرفرف أنا، وقد أصبحت جناحي، وأصبحت السماء رحبة مفتوحة لتحقيق كل الأحلام!.. معك! وأحببت أفلاطون أكثر، وآمنت بدينه في الحب. أجل لقد كنا روحاً واحدة انقسمت في البدء. وكنت نصف الروح الذي ضاع مني وتاه على مدى الدهر، حتى التقيته. بك، قد اكتملت الروح! وستظل مكتملة إلى الأبد!
أجل! وأنا منك وأنت مني، بحبك، كان يمكن أن أخترق السماوات وأطير إلى الآفاق، وأحقق كل أحلام الأرض، مهما كانت الحواجز والسدود!
    ولأجلك، لأجل أن يبقى الحب كما أراه في عينيك المولعتين، في أصابعك الملتهبة، في كلماتك المشرقة، كان يمكن أن أتنازل عن كل شيء في الدنيا إلا عنك!    فالحب وحده يخلق الدنى ويفتح كل الدروب!

    لم يكن يهمني أين تأخذني. أين تسكن بي كهفاً أو قلعة أو بيتاً على السطوح. لم تكن تهمني مسؤولياتك العائلية المتعددة والنساء السبّع خلفك. فقد كنت أراني مرتسمة دوماً ملء عينيك: أنا الوطن، والسماء، والآفاق. كنت تقول: -أنت غير كل النساء حولي! هذا ما أريد! امرأة أصيلة عصرية تفهمني! أتحاور معها حول ما يشغلني وما يشغل البلاد والعالم. وأطمئن إلى أصولها الطيبة وإلى سلامة نسلي القادم! فأقطّب جبيني، وأسأل ممازحة فاضحة بعض خيبتي:

    -ألهذا فقط؟ هذا اختيار العقل! فأين هو القلب؟
-العقل هو دليل القلب! لذا هما عندي متفقان
-لكن قلبي أنا هو الهادي إلى الطريق
-أن ينبعث الضوء الأول من القلب أو من العقل سيان! المهم أن يتفقا! ثم تلين وتحنو وتمتد يدك ترفع ذقني إليك
-وهذه الحلاوة التي تقطر منك؟! كيف لا أحبها؟
وتضغط أصابعك ويحتد بريق عينيك
-ولكن، لن أسمح لغيري أن يترشفها!.. حتى بعينيه
ثم نفترق ونلتقي. ونلتقي ونفترق. والشهور تركض والسنين تمر
خطف الموت أثناءها أبي قبل أن يطمئن ويسعد برؤيتي في بيتك. ودّعت معهدي وتفرق الأصحاب، كلّ في طريق. دخلت الجامعة ووفيت بوعدي لأمير، هذا الطفل الذي فاض جسده فجأة ليخطو مرة واحدة من الطفولة إلى الشباب.

    وأنا أعد امتحاني الجامعي الأوّل، زارتنا أمك وأخواتك لإعداد المراسم ليوم لقائنا المشهود. لأجلك، قبلت كل الطقوس، ودخلت سرداب العادات والتقاليد حافية، مسدلة الأجفان. فقط، لأجل أن أكون معك. فقد اخترت الحب: سبيلاً للحياة.
    .. هل اخترت حقاً؟! أم كان سحرك الغامض أقوى من الاختيار؟! فقد اختزلت كل الأماني والأحلام التي تصطخب في القلب البكر. حتى الموسيقى صدى الروح!.. حتى الموسيقى التي كانت تطلع من أعماقي – في توحدّي – وترفعني إلى سماء النشوة الغامرة، صارت تركض إلى جداولك! تخفق بكلماتك! وتعزف لك وحدك! ومع ذلك، كنت أتساءل أحياناً – تراك تفهم حقاً موسيقاي؟.. تراك تسمع همس الروح؟





هامش 1




     ها هي الشمس ترتفع. وها هي أصوات البنات تعلو في صحن الدار وداخل الغرف المحيطة. الأواني في المطبخ تغسل، والماء يرشرش من الحنفيات يغسل أوساخ بقايا احتفال الأمس. ويجري جداول في صحن الدار.
    فاستيقظي يا شرود!
المدينة تنتظرك. وكل البيت العتيق يرقب بابك المغلق. ينتظر العروس الجديدة.
تركت لك ليلة عرسك ومضيت.
وتركتهم على الباب في انتظارك، يترقبون الوليمة الجديدة. والمسرحية تكاد ترفع الستار. فمتى تخرج أيها العريس ليرفع الستار ويشهد الجميع شرود على الركح؟

    بابك ما زال مغلقاً
والأصوات تعلو وتتداخل في صحن الدار.
ها هو بابك ينفرج. ينفتح، لتبدو قامة السيد خالد من وسط الدار، عالية مديدة تمر قرب تشابيك الحديد المطلة على الصحن الرخامي. تقترب من الدرج. ترتفع أعين البنات والنساء إلى الأعلى. تلتمع بالفضول والمكر الضاحك. وتنطلق زغردة عالية تستقبل العريس القادم.
    تدعوك الزغردة المتوالية فتنفتح عيناك واسعتين بالتساؤل.. لا تخشي شيئاً! المدينة تستيقظ وتدعوك. والنسوة في انتظارك. فاليوم، تنكسر جرار الملل في غرفهن. فلهن من متع الفرجة والحديث والانشغال بكل ما يهم الضيفة الجديدة ما يؤثث أسابيع وشهوراً من الفراغ.
    اليوم، يبدأ العرض
    فاخرجي يا شرود للنساء! لتكتمل الحكاية!




هامش 2




    آه يا شرود! لملمي أنوثتك الطاغية!
لملمي جمالك الآسر قبل أن تلهب الصدور نار الغيرة والحسد. وقبل أن ينقلب الانجذاب إلى سحرك القادم إلى حقد على حواء الجديدة.

    ها أنك تجلسين بفستانك الساتان، الطويل، يضمك بياضه اللماع بحنو وشهية حتى الركبتين، ليتسع أسفله، ينتشر حولك أمواجاً من البياض اللؤلؤي، يكلل رشاقة الجسد.
    العسل في بحيرتي العينين اللوزيتين الواسعتين يلتمع بنشوة الهوى وشعرك الطويل الناعم المنسدل على كتفيك وظهرك، ليل يعانق الأفجار.
    وها هن الضيفات القادمات يجلسن على حشية الصوف الطرية على الأرض مع الحاجة زكية، أمام الزربية القيروانية المفروشة على طول الغرفة. يترشفن الشاي «بالبندق» في الكؤوس المذهبة ويتجاذبن أطراف الحديث مع حماتك الحاجة، ويرسلن إليك البسمات ويسترقن النظرات الفاحصة إليك أحياناً.
وأنت، على عرش ملكك المؤقت، تجلسين.. صامتة. تشاركين ببسمة أو كلمة بين حين وحين. وحماتك تنادي ابنتها الكبرى وهي تعدّل من جلستها وتصلح وضع المنديل على رأسها.
    -زينة! افتحي الدولاب! وفرجي خالتك صلوحة على الجهاز!.. هي لم تحضر يوم الفرش
وضعت زينة كأس الشاي على الصينية المغربية المفضضة الموضوعة أمام الضيفات. نهضت واتجهت نحو الدولاب وهي تسمي باسم الله. فتحت الباب المسكو بمرآة كبيرة.
    -تفضلي خالتي صلوحة! اقتربي! العاقبة ليامنة!
وشرعت تخرج الفساتين، ترفعها بمعاليقها إلى فوق. تتأملها الضيفات وهي تعرضها بدراية وتؤدة عليهن. وتعيدها للدولاب. وتخرج فساتين أخرى.
    -هذا فستان السهرة الأسود!.. هذه التبديلة المطرزة! هذه كسوة رفراف!.. هذا معطف الفرو!
وتواصل العرض.
-تبارك الله! تبارك لله
تردد صلوحة، وتصلي على النبي، فتتبعها الأخريات.
-تبارك الله! العاقبة لسلوى ومريم يا زكية!
وحماتك يفتر ثغرها عن بسمة رضا واعتزاز، وزينة تواصل تقديم الفساتين والأغطية وتفرج الضيفات على الطواقم الخاصة بالأكل والشراب والقهوة والشاي، وثياب النوم المشبكة الشفافة ومشدات الصدر الأجنبية في صناديق الإغراء.. يتضاحكن موشوشات.
تظلين جامدة. تتابعين المشهد بصمت.
    يتوقف العرض لحظات. تقدم سلوى البقلاوة والكوكا كولا.. ثم يتواصل العرض مع ألوان أخرى من الفرجة.
تتواصل دردشة النساء. تتواصل التمنيات والنظر المسترق. تكاد تظلم الغرفة حين أضاءت خديجة النور.
    أخيراً، تأهبت الضيفات للوقوف.
-ما زال الوقت مبكراً. آنستمونا!
لم يعد خالد بعد!
    ولكن الضيفات اعتذرن. فآذان المغرب ارتفع منذ حين ويكاد يفوت وقت الصلاة. تقدمت معهن إلى الباب، تدعين لهن بالسلامة. وتغلقين في وجه الليل القادم الباب.



5



    الله أكبر! الله أكبر!
لا إله إلا الله!.. لا إله إلا الله!

    ملأ أذان المسجد القريب صحن الدار.
أفاقت شرود من غفوتها، أوان صلاة العصر. كان خالد قد خرج. فعادت، كسلى، تتكئ على مسند السرير، تدني صحيفة الصباح، تكمل ما لم تقرأ من أخبار. فالدار ما زالت هادئة: الأطفال عادوا منذ أيام إلى المدرسة، والنسوة لم يجتمع شملهن بعد - كعادتهن - في صحن الدار، يدعونها أو يأتينها مع بعض الضيفات القادمات مباركات.

    جال نظر شرود بين عناوين الصفحة الأولى. تتابعت أخبار الشرق الممزق وتناثرت على أعمدة الصفحة رغم رقابة التجميل والإرضاء. .. تصدع في الصف القومي«.. «انفجارات في لبنان».. «اضطراب في اجتماع نقابي».. العمال ومنظمتهم في خطر..
لم تنتبه للأقدام التي تتابعت أمام الباب.
-شرود! أأنت هنا؟
-راضية! – كما تحب أن تناديها حماتها – راضية! أأنت نائمة؟
قفزت من السرير على صوت الحاجة زكية القادم من الباب
-لا! يا أمي زكية! تفضلي! ادخلي!
    بوغتت بنساء الدار، يرفعن ستار باب العليّ، يتقدمن خلفها، ضاجات ضاحكات: زينة الابنة الكبرى التي تحتل مع أطفالها أوسع غرف الدار، في انتظار زوجها العامل بالخليج. وخديجة العائدة كسيرة إلى البيت الكبير بعد زواج حرمت فيه من الإنجاب، وخلفها حليمة وسالمة المتزوجتان اللتان تزوران يوماً بيوم العائلة للاطمئنان. وعلى عتبة الدرج الأخيرة، من بعيد، لمحت سلوى تلميذة الثالثة ثانوي، العائدة من معهدها مع أختها مريم المنقطعة عن التعليم في مراحله الأولى والتي ما زالت تنتظر العريس، تتقدمان للحاق بالأخوات.
    شاهدتهن يتقدمن، في ثيابهن الطويلة إلى الداخل يقتحمن وحدة العصر. راحت ترحب بهن.
-أهلاً! مرحبا حليمة! مرحبا سالمة!..
أهلاً بكن!.. تفضلن!
-قلنا: لماذا نتركك وحدك؟! نقضي العشية معك!.. نؤنسك!
طوت شرود الصحيفة التي رمتها مبعثرة الأوراق على المنضدة الصغيرة. ركنتها جانباً وراحت تهيئ لهن المكان.
خالتك فطومة دعتنا لعرس ابنها الأسبوع القادم. ولا بد أن تكون عروستنا أحسن العرائس!
ضحكت وهي تدعوهن للجلوس.
-لم أعد عروساً! مضى شهران الآن! قريباً جداً أعود طالبة تحمل الكتب وتنوء من أتعاب الدرس والمراجعة.

    جلست النسوة على الحشية المغطاة باللحاف الأبيض المطرز. جرّت مريم وسلوى الأريكتين قربهن لتكتمل حلقة النساء. انحنت شرود تقدم لهن صحن الحلويات المعد فوق المنضدة الصغيرة الواطئة بعد أن رفعت عنه المنديل المطرز الناصع البياض.
    استسلمت للأريكة المقابلة صامتة، تتابع بعينيها الحائرة وشبه بسمة على الشفاه، حديث النساء.

-كفى أسئلة يا شرود!.. الجرس يرن!
-كُفّي نقاشاً يا شرود!.. انتهى وقت الدرس!
-سيدي! هل قرأت «خبز وحشيش وقمر» قصيدة نزار الجديدة؟
نشرت يوم أمس!
ولا ينتهي السؤال ولا يهدأ الكلام وركض البحث والمعرفة. في البيت، والمعهد والجامعة، وحتى مع خالد وقت اللقاء، تلخص الكلمة أسئلة الروح وجيشان القلب.

    والآن، ها هي على منصة الكلام في بيتها، وسط الحلقة. ولكن، يخبو الكلام، ويختفي السؤال. فعم تسأل؟ وما الذي تناقش، مع نساء الدار طول هذا العشي؟ وهي التي كانت تنفر دوماً من حديث النساء!..
افتحي الدولاب يا راضية! ولنر ما يناسبك لحفلة العرس القادم! قيسي فساتين الفرح يا راضية!

    اتسعت عينا شرود. ارتعشت الرموش وهي تسمع صوت الحاجة زكية يبادر بالطلب.

-ولكن!..
-لا تخجلي!.. هيا!

    توقفت شرود في مكانها. بدا لها أنها لم تستوعب الطلب. لم تفهم لم الخجل؟! ولم العرض؟! بدا لها أن هناك دمية في هذه الغرفة مطلوبة للعرض ستوضع بعد حين في الواجهة.
فوجئت بزينة وقد فتحت باب الدولاب، وأدخلت يدها تختار أول فستان للعرض. قدمت لشرود الفستان الأبيض الطويل العاري الكتفين بريشه الوردي المهفهف حول الصدر وظهره العاري.

    -قيسي هذا! يبدو جميلاً!.. إلا أنه عار!
سكت الصوت لحظة وأضاف:
-ألا تريدين؟
أفاقت شرود من سهومها:
-لا!.. لماذا؟
على ذراعها، وجدت الفستان. استدارت للدخول إلى المقصورة لإغلاق الباب وارتدائه.
-أين تذهبين؟.. كلنا نساء!
أمسكت زينة بذراعها وعادت بها. وأحطن بها يساعدنها على نزع فستانها وارتداء ما يقدمن لها.
-دوري يا شرود!.. من خلف!
-انتظري يا راضية! تقدمي قليلاً لأرى!.. تأخري!
-البسي الأخضر!
-البسي الأحمر!
-.. كسوة رفراف!.. البنفسجي!.. السماوي!..
-.. ..

    كانت المرأة البدينة الكهلة تتربع على الحشية على الأرض، تمعن النظر. تقلّب البصر من فوق إلى تحت، ومن تحت إلى فوق بينما شرود ترتدي الفستان، تتركه يسقط، دون كلمة. فقد أقحمت في موقف مباغت، يواجهها لأول مرة، في دار مهيبة لم تعرفها إلا منذ فترة. وخالد تركها وحيدة بين النسوة في البيت العتيق المحافظ. ومضى إلى الشارع رفقة الأصحاب.
    في المرآة العريضة للدولاب، شاهدت شرود تمثالاً جميلاً عاري الكتفين، ناعم البياض، بعيون كبيرة شاردة، يتحرك في مغازة حديثة التأثيث، ونساء ملفوفات الشعور والأجسام تحركه. تديره في كل الاتجاهات. تلبسه. تعريه، والتمثال يدور.. ويدور.. وشبه سؤال معقود على شفتيه. بدا المشهد غريباً، سريالياً.. نساء ملفوفات الشعور والأجساد حول دمية شبه عارية.
    ظل التمثال يدار. يعرّى. يلبس. ويعرّى. والشمس تميل عن قبة السماء. تطل من عيون »البرمقلي« الخشبي على الشباك الصغير. تتفرج. تمل عيونها الفرجة. تنحني للمغيب، لينفض المجلس. ويقمن للصلاة مودعات.




6



    شدني إليك! كسّر أضلعي بين ذراعيك!
اتركني أحترق حباً، وجنوناً ولذة!
أتناثر هباء وأعود أتشكل من جديد. أتألق، أضيء الدنيا بوهج حبّك!

    اتركني بين ذراعيك. بحضورك أنسى وحشتي في هذا البيت القلعة! أنسى رائحة القدم وعتمة الزوايا وامتداد الغرف الغارقة نهاياتها في عتمة موحشة.
فأنا بدونك تائهة. وهذا البيت قلعة من قلاع المدينة العتيقة، عالية الجدران، مغلقة على نفسها. حتى النوافذ القليلة إلى الخارج، ضيقة، صغيرة، يعلوها البرمقلي، تشح بمساحتها على الفضاء الخارجي، لا تمنحك الرؤية إلا من الثقوب الصغيرة عند الاقتراب.

    هنا، وجدتني معك، في هذه المقصورة المتصلة بالعليّ الرحب في الطابق العلوي ولبقية العائلة الطابق الأول بغرفه المحيطة بالصحن المفروش بالرخام، والجدران المغطاة بالجليز المزركش والطابق السفلي مخازن مغلقة لم يهمني عنها السؤال.
    هنا وجدتني في عالم آخر بعيد عن عالمي الماضي: المعهد والكلية والبيت المفتوح على الشجر.
هنا وجدتني في عالم تشم فيه رائحة القدم، تنفث برودة غامضة، وترى في جدرانه الغليظة العالية المكلسة بخضرة خشنة كئيبة، وسقوفه البعيدة وزواياه الغائمة، تاريخاً قديماً غامضاً معتماً.
    لا أدري، لم ظل يذكرني دوماً بالكنائس ورهبتها.
ربما، لتلك الرائحة العتيقة الرطبة المنبعثة منه.. أو لامتداد الغرف غير الاعتيادي واختفاء زواياها البعيدة في شبه عتمة، أو لعلو الجدران القاضمة سعة السماء، أو ربما لذلك الصدى الذي يتردد في بعض الغرف والأركان، كأنه آت من كهوف غابرة مسحورة، أو لعله مشهد أجسام النساء الملفوفة إلى الكعاب وقد اختفت شعورهن، وضاعت حتى الجباه تحت الأغطية المدلاة على الأكتاف.
    هنا نبتت طحالب الوحشة حولي، رغم اهتمام النسوة بي ورغم مرور الأسابيع والشهور على قدومي واقتراب نهاية عطلتي
هنا، وجدتني صغيرة، ضائعة.
    أرفع رأسي للسماء، فأرى الجدران عالية، جد عالية، وغليظة، تقف في وجه الشمس، فتبدو السماء بعيدة عني أبعد مما كنت أتصور. وسرعان ما تقضم الجدران وجه الشمس، فلا أعود اراه.
وأنصت، فإذا كل الأحاديث الدائرة في الدار عن أخبار نساء المدينة وخطبة الجمعة ودرس الجامع القريب عن الجنة والنار. خاصة عن النار. وأظل صامتة أنتظر قدومك لتزيل عن أكتافي الوحشة، وتبعد عني وهج النار القادم من الآخرة، الساكن الدار.
أنتظر قدومك لأعود معك مع الآخرة إلى الأولى التي لم أعرفها بعد! فأعود للحياة، أفكر وأحلم وأحيا، وأبتعد عن دروب المدينة العتيقة الكئيبة.
    ومعك، أرحل في دروب الدنيا، أفتح أبواب المستقبل، نناقش معاً أخبار البلاد والعالم وحركات اليمين واليسار ومناوشات الطلاب ومواقف الساسة.
وتحدثني عن أخبارك في الشركة وأحدثك عن آخر أخبار مجلات الثقافة والفنون وأدعوك لسماع أعذب الألحان.

    تراني فقط أحتمي بك؟
    لا!.. أنا أولد معك! وأبعث!

لا لأني جزء منك! لا لأني ضلعاك! بل لأنك نصف الروح! معك أعود أجدني أملك الدنيا وأرسمها من جديد، على هواي! ويعود اللحن، تعزفه الأوتار داخلي.. تراك تسمعه؟!.. يعود يحملني على غمامة وردية إلى سماء لذيذة من نور.

    فشدني إليك أكثر!
واترك هذه اليد الواسعة التي قطفت لي الشمس ترفع خصلات هذا الشعر المتناثر عن وجهي لأراك!
اتركها تحنو على كتفي العارية وتنوّم هذا الجسد!
في أحضانك، أنام، وخيمة الدنتيل الشفاف على المهد تغطينا، وموسيقى الجنة الحانية الرحيمة، رفرافة، تأخذنا لحضن من حرير النعاس.

    في أحضانك أنام.. فأنسني القلعة! وأخفت صوتها الجارح القادم من آلة التسجيل!
.. سوف تلهو بنا الحياة وتسخر.
فتعال! أحبك الآن أكثر!
أخفت صوتها النبوءة!.. وتعال!.. لأحبك الآن أكثر.
فقط!.. تعال!.. لأحبك الآن أكثر.





7


من أوراق أمير




    رحلت شرود.
لم نعد نسمع صوت الموسيقى في الدار ينبعث من غرفتها.
لم أعد أسمعها تغني بصوتها الشجي حين أدخل، أو تمازح عمتي ضاحكة. أصبح البيت صامتاً وغرفتها خاوية موحشة. حتى عبد الحليم لم يعد يملأ بالغناء بيتنا كما كان.
    رحلت. ولم تعد تدعوني للتنزه على الشاطئ المقابل لبيتنا أو لجمع الأصداف. أصبحت أخرج وحيداً إلى الشاطئ. أصحابي جلهم رحل. وخلا الكرنيش إلا من بعض سكانه القدامى. أسير محاذياً البحر الذي بدأ يربد، على الشاطئ الخالي من المصطافين.
    هذا هو طقسها. كانت تنطلق إذ يخلو الشاطئ. ترمي رداء الخجل. تركض، وتلوح بيديها للفضاء، وتطلق شعرها للريح، وتدعوني لمرح طفولي. نمشي أو نركض على الرمل المبلل والموج يطارد أقدامنا.
نرسم أحلامنا على الرمل. تترنم هي أحياناً بالغناء.. ثم نتسابق.
    حين أتجاوزها، تتوقف لاهثة. تدعوني للتمهل، والبحث عن الأصداف لنكدسها – فيما بعد – على محيط الشجيرات أو نزين بها جانبي الممشى، نشدها ببعض الجبس الأبيض حتى دالية العنب الممتدة أمام الدار.
رحلت شرود.
    ولم أعد أدفع بها الأرجوحة المعلقة في شجرة التوت. فترتفع إلى السماء عالياً. مع ذاك تهتف بي:
-أعلى! أعلى يا أمير!
وحين أمضي عنها وأتركها تدعوني:
-تعال! ستشتاقني قريباً! ولن تلقاني!.. أفتهرب مني الآن؟! فأعود إليها أدفع بها الأرجوحة إلى السماء.

    أخيراً، مضت شرود.
يوم أخذها خالد، حين عدنا من الحفل، وجدنا مصباح غرفتها قد احترق. لم يحترق إلا يوم رحيلها.
قالت عمتي عائشة: «سبحان الله! حتى الغرفة حزينة لفقدها!» ثم استدركت: «أستغفر الله! أستغفر الله! الله يسعدها ويهنئها».
وبقيت الغرفة ~أياماً كئيبة موحشة كلما حل المساء، بلا نور.
    تلك الصورة فقط، على مكتبها المقابل، كانت توقفنا عند الباب، نبادلها الابتسام، تذب بعضاً من وحشة البيت.
    تقف شرود للكاميرا. يدها في يدي. أنا طفل في التاسعة، وهي صبية في أول الشباب. وجهها الصبوح تعلوه ابتسامة وشعرها الأسود الناعم يحيط بوجهها بعناية حتى الأكتاف. ونحن نرفل في ثياب العيد الجديدة. بيننا سلة أزهار تفيض بزهورها على الجانبين. خلفنا والدنا، بجبته الفاخرة وعمامته البيضاء والضحكة المتألقة دوماً في عينيه، وقربه أخي الأكبر أحمد، قبل سفره للدراسة بباريس، في قميصه الثلجي وربطة عنقه الفراشة الأنيقة الأسود.
كانت الصورة في إطار مذهب تستكين إلى المكتب الذي خلا من كتب شرود.

    لم أنتظر صباح اليوم الموالي للحفل، ذهبت إليها.
دخلت الأزقة الضيقة الملتوية، تراكضت القطط أمامي فوق بقايا الزبالة. تراكض الأطفال.
تجنبتهم. حاولت الابتعاد عن برك المياه المتجمعة في الحفر من سقائف البيوت.. لم رضيت شرود السكنى هنا؟ في الأزقة المحفّرة؟!.. حين وصلت آخر الزقاق وجدت الباب الخشبي الكبير للدار مفتوحاً. صعدت درجات السلم، اثنتين اثنتين حتى الطابق الأول.
    في الاستراحة رفعت رأسي إلى الطابق الثاني.
شاهدت بابها مغلقاً. تلقفتني النساء قبل أن أصعد. رحّبن بي ودعونني للدخول إلى صحن الدار.
قلن: العروس ما زالت نائمة!.
    انتظرتها. ظلت عيناي ترتفعان من حين لآخر إلى الدرابزين الحديدي المحيط بساحة الطابق الأعلى ترقبان بابها، حتى سمعت زغردة النساء، ولمحت سي خالد يخرج وينزل إلى أهله. تقدمت مسرعاً. سلمت عليه. وركضت إليها.

    استقبلتني رائحة عطرة من الباب المفتوح.
وشاهدتها، تقف أمام المرآة. شعرها الطويل يسترسل على ملابس طويلة بيضاء لامعة تنساب على جسدها. التفتت ناحيتي. لوهلة، بدا لي أنها تغيّرت. لم تعد الطفلة الكبيرة التي تلهو معي.
أدفع بها الأرجوحة وأركض معها على الشاطئ، وتقرأ بواكير أشعاري. تغني لي وتسرّ لي بأحلام الغد.
    بدت لي بحاجبيها المجززين الدقيقين، ووجهها الذي يعلن آثار زينة النساء، وثيابها المهفهفة اللامعة الشفافة، واحدة أخرى.. لم تكن شرود.. رغم بعض الملامح الأليفة.
    تقدمت بتحية الصباح السعيد.
اتسعت عيناها وهي تراني. لم تكن تتوقع قدومي حال انفتاح الباب هذا الصباح.. أقبلت نحوي جذلى، فاتحة الذراعين. قبّلتني. وقتها وجدت شرود التي أخذها خالد إلى داره البارحة.
    عادت تضمني. كانت دافئة. عطرة، ضاحكة.
فتحت درجاً وملأت كفيها باللوز والحلوى.. تساقطت بعض القطع. لم تأبه لها واقتربت لتملأ باللوز والحلوى راحتي. تراجعت.
-لا! لا! شكراً! أتيت فقط لأراك!
لم تأبه لكلامي. دسّت بقية ما لم أمسك من الفواكه والحلوى في جيب بنطالي.
    .. وسريعاً ما أقبلوا. امتلأت الغرفة على امتدادها بأهل البيت من النساء والأطفال. أحاطوا بها. تعالت التهاني والزغاريد. وظل سي خالد بعيداً، لا يُرى، خارج الغرفة.
بدت لي مرتبكة تائهة وسط الجمع الضاج..
تركتها بينهم، ومضيت.

    غابت عنا أسابيع مع زوجها. قالوا: شهر العسل. أرسلت إلي بطاقة تقطر حناناً. أجبتها بأبيات شعر جاد بها خاطري.
الآن، مرت أشهر العطلة. حل شهر أكتوبر وبدأنا الدراسة في المعهد، وشرود لم تعد بعد إلى الجامعة رغم وعدها لي وتأكيدها. قالت إنها مريضة وستنتظر حتى تشفى. فكليتها بعيدة، في الأطراف الجنوبية للعاصمة والسفر اليومي ينهكها ولن يترك لها القدرة لمراجعة المحاضرات والدروس.
زرتها مرات قليلة بعد عودتها. كانت تفرح لمجيئي. تتمسك بي. تفيض عيناها حنيناً. لم أكن أستطيع البقاء طويلاً، فقد كنت دوماً أجدها محاطة بالنساء.
    هذه المرة فضلت الذهاب إليها في الصباح. جنيت لها عناقيد ناضجة عسلية من كرمة العنب التي تمتد أمام الدار فتكون سقفاً أخضر ظليلاً يدلي عناقيده الشفافة المضيئة، نجلس تحته في عشايا الصيف وأمسياته.
    حين دخلت، كان صوت الأم –عالياً- يأتي من المطبخ مخاطباً ابنتها الكبرى، والأخريات موزعات بين صحن الدار والغرف، يمسحن وينظفن الرخام والجليز، وضجة الأسطل والمواعين والأصوات تغطي على وقع أقدامي الراكضة على الدرج. تجاوزت الاستراحة وصعدت إليها.

    لقيتها وحيدة. بدت شاحبة واهنة. قالت إنها ما زالت مريضة. ولم تضف إلا بعض الكلمات، والجمل الغائمة. لم أطل معها البقاء.

    حين خرجت من الأزقة قابلني البحر. مشيت إليه. مشيت طويلاً محاذياً زرقته وأنا أفكر. لم كل هذا الشحوب؟.. حين سألتها عن المرض، لم تجب. أولتني ظهرها واقتربت من «البرمقلي» الذي يرتفع أمام النافذة..
    ذكّرتها باللحن الذي حدثتني عنه. ذاك اللحن الذي تحلم ببعثه للوجود، فريداً، ساحراً، لا مثيل له، وستعزفه على العود، ستسمعه سي الطاهر فيطرب له كما كانت تطرب طفلة لعزفه وهو يسمعنا «أليف يا سلطاني» و «يا عاشقين ذاك الشّعر » فتغني معه، ونغني كلنا: أحمد ونبيهة وصالح والخالة فريدة. ويرتفع الغناء في تلك العشيات اللذيذات تحت كرمة العنب.
    سألتها عن العود الذي ظلت دوماً تحلم به، ووعدها سي خالد بشرائه بعد الزواج. التمعت عيناها. لمع الشوق وتيقظ الحنين ثم خبا البريق. سكنت فترة ثم قالت:
-سيأتي أوانه.
سألتها: -متى؟
أجابت: -النغم هنا! في القلب! لن يضيع!
تاهت عيناها هنيهة. ثم التفتت إلي وأضافت:
-إذا كنت تحب حقاً ما تريد، فحتماً ستصل! فالحب يفتح كل الدروب!
    ذكرت قولها مرة «بذرة الفن – إن وجدت – أبداً، لن تموت، حتى تشق الأرض وتبزغ. تطلع ولو من بين الصخور».

    ودعتها وخرجت. سرت طويلاً مع البحر وأنا أفكر. ما لشرود، صديقة الطفولة، تبتعد وتنأى؟ نسيت حتى أن تسألني عن آخر ما كتبت، كما اعتادت كلما رأتني، منذ قرأت تلك الأشعار التي أخبئها في كراريسي. فقط، قدمت لي كتاباً صغيراً قائلة: -اقرأه! سيعجبك!
كان ديواناً لمحمود درويش
رحبت بالكتاب، ولم أطل البقاء.

    تسكعت في طرقات المدينة. مشيت محاذياً النخيل على الشاطئ. حينها، حدّق شرطي في وجهي وأنا أقترب من دار الولاية. ابتعدت والكتاب في يدي، ونظرة الشرطي المحدقة بي تثقب ظهري وعينا شرود الهاربتان إلى البعيد تثيران قلقي. ابتعدت عن دار الولاية، والبحر المربد الذي بدأ يهيج، وألف سؤال وسؤال يقف في طريقي.







هامش 3





     لماذا تهربين من أمير شرود؟
هو حبيبك الصغير. فلماذا تتركينه يمضي للحيرة والظنون؟ ما الذي بك؟ ولماذا تدّعين المرض؟
أمير لم يعد صغيراً. أمير رغم سنواته الأربع عشرة أكبر من عمره. أسبق من أترابه.
سنوات ثلاث فقط ويصل الجامعة.
أمير شاعر. إنه يقرؤك يا شرود! ويحوّل نغمك الصامت قصيدة! فلا تتعبيه بصمتك.

    ترى؟ هل كل الكلمات والأنغام أصبحت لخالد؟
هل أخذ خالد الذاكرة وأطفأ البحر والشجر ودالية العنب وأحلام الصبا؟ هل أنساك خالد حتى أمير؟!
أم –ترى – شغلتك إلى هذا الحد، دنياك الجديدة؟
حتى الحلم الوحيد الكبير الذي تحضنين: النغم الخالد الذي ستعزفين، توقظين به الموتى من القبور، وتباهين به.. ربّة الموسيقى، تراجع. التحف رداء الصمت، وخبا بريقه بين الضلوع.
.. تراه خبا حقاً، أم هو الجمر تحت الرماد يشتعل؟ ما زال ينتظر العواصف والريح توقظ ناره، تشعل بخوره وتذكي عبقه، حتى ينتشر سحره في سماء المدينة؟




8





    أقبل محمد ابن العشر راكضاً.
-تعالي! بسرعة! قالت لك أمي: الأخت راضية هنا.
ومضى ابن زينة تاركاً الباب مفتوحاً.
من فوق شاهدتها داخلة بقامتها المديدة وجسدها الممتلئ يلفها السواد. وهنّ حولها مرحبات ضاجات بالسلام. الحجاب الطويل ينسدل على الكتفين يغطي الصدر، والجلباب الفضفاض الأسود يلامس الأرض، والبرقع على وجهها لا يظهر غير النظارة الكبيرة السوداء. رفعت رجلها تتجاوز عتبة الغرفة المقابلة. بدت ساقاها حالكتي السواد. أحنت الرأس قليلاً وهن يرفعن لها ستار الباب. دخلن خلفها وانسدل عليهن الستار.
كان عبد الحليم يغني:

    شوف يا قلبي شوف
شوف الدنيا
حلوة إزّاي
بالحب يا قلبي
بالحب يا قلبي

     واللحن العذب والصوت الحنون يأخذاني على غيمة وردية ناعمة فوق بحار لألاءة وكتاب ستاندال الأحمر والأسود
rion el te eguor eL مفتوحاً بروعته بين يدي، حين اقتحم الصبي خلوتي داعياً.
لم أكن أرغب في الخروج والنزول عن غيمتي المسافرة وترك قصّة الحب الجميلة، ولكن الدعوة جاءت من الطابق السفلي، من أهل خالد. هناك تعرف النساء أن خالد قد خرج، وأن دروسي الجامعية لم تبدأ بعد. وأني ما زلت خليّة من العمل.
فبأي عذر سأنسحب؟ وأي ادعاء يبرر عدم تلبية دعوة الأهل، ودروس الأخلاق والمجاملات أتقنوا رسمها منذ الرضاعة تحت الجلد؟
على مضض، تركت المذياع يغني. ونزلت على مهل والصوت الشجي يصاحبني صداه وأنا أنزل السلم تحت صحن الدار.

شوف الدنيا حلوة إزاي
بالحب يا قلبي
بالحب يا قلبي

    حين رفعت الستار، وجدتها بلا برقع ولا نظارة، تتصدر المجلس ونساء الدار من حولها وبعض الجارات، ونساء أخريات لم أعرفهن. الأعين بها معلّقة. الشفاه نصف منفرجة، وكؤوس الشاي على المائدة الصغيرة لم تلمس بعد، وصوتها مسترسل يواصل الخطاب.
«يا أخواتي! إن الإسلام كرّم المرأة وصانها عن الابتذال، ففرض عليها الحجاب حتى لا تتعرض للريبة والفحش ولا تقع في الجريمة».

    توقفت عند الباب. عبد الحليم ما زال يغني وصدى صوته الحنون اقتحم المجلس معي مع هبة الريح. أشارت إحداهن مقطبة بغلق الباب. واصلت المرأة المتصدرة المجلس «النساء حبائل الشيطان!» هذا قول الرسول الكريم.
فكيف يجوز لامرأة مسلمة، أن تخالف الله وترفع الحجاب أمام رجل أجنبي؟ ألا تعلم أنها تستطيع إن شاءت – أن تجعل من نفسها بلاء للرجل، لا يكاد يجد سبيلاً للنجاة منه؟
ألا تعلم أن «النساء حبائل الشيطان » وأن « أكثر أهل النار: النساء؟» .. وكم من أمة كانت ذات سلطان بين سائر الأمم، تضاءل شأنها وتهاوى سلطانها بما شاع من الإباحية والتفسخ الأخلاقي. لم يكن سبب ذلك كله إلا المرأة!».

    تمالكتني حتى لا أرفع صوتي في وجهها.
تقاطع نظر الضيفة مع نظري. مرغمة حييت برأسي وأنا أمسح الصفعات المفاجئة. وجلست على أول مقعد صادفت. كنّ منشغلات، مأخوذات بما تقول.
ردت على تحيتي الصامتة بانحناءة خفيفة من الرأس وابتسامة واسعة أضاءت سمرة وجهها وكشفت الناب الذهبي بين أسنانها البيضاء. سريعاً ما اختفت الابتسامة وهي تواصل.
«ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام: ما تركت فتنة بعدي هي أضر على الرجال من النساء؟»
حدّقت بها عيناي. عدت إليّ. إلى المرأة الحديثة العهد بالدار. تلك التي كانت تترنم مع عبد الحليم وتبحر مع ستاندال.
ها هي وحيدة منزوية قرب الباب. هذه المرأة! «أخت الشيطان الخبيثة القلب الصخابة الجامحة». تذكرت فوراً هذه الكلمات من التوراة كتاب اليهود .. «أمرّ من الموت، المرأة التي هي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود».
أهذه أنا؟! في دينهن الجديد القائم من عثّ كتب القبور – تماماً – كما جاء في كتاب اليهود – أخت الشيطان؟!

    انتبهت لبعض الرؤوس تتحرك مؤيدة راضية خاشية والمرأة تواصل: «ومن هنا، كانت أخطر الوظائف الإسلامية التي كلف الله بها المرأة أن تخفي فتنتها أمام الرجال، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً حتى لا يقعوا في هذا البلاء! وقد وقع الإجماع على أن المرأة لا تحرز رضى الله عنها بعمل من الأعمال الصالحة كما تحرزه بالسعي إلى ضبط نوازع الرجال الشهوانية. ولا تتسبب في غضب الله عليها بعمل من الأعمال المحرمة كما تتسبب في ذلك بالسعي في سبيلٍ تثير في الرجل نوازعه الشهوانية وتقصيه عن العفة والاستقامة. لقد قال رسول الله: إن أكثر أهل النار النساء – وهذا ورد في الحديث الصحيح – لأنهن لا يتقين الله في هذه الوظيفة الخطيرة التي كلفن بها. فالمرأة حتى لو لم تتزين. كثيراً ما تتعطر، وتخرج إلى الشارع فتميل القلوب وتحرك الشهوة.
وقد ورد عن النسائي وابن داود عن محمد عليه الصلاة والسلام: أيّما امرأة تعطّرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها، فهي زانية.. زانية! أسمعتنّ يا أخواتي؟ زانية! أي يحق أن ترجم بالحجارة حتّى الموت! الموت! ومآلها جهنّم وبئس المصير!»

    انعدم الهواء ووجدتني أختنق. النافذة مغلقة والستار الخشن ينسدل على الباب حتى الأرض يمنع الضوء والنسمة من الدخول.
رشقتني عيناها الغامضتان وارتفعت همهمة النسوة:
يا لطيف! يا لطيف! يا لطيف! يا لطيف! ربّي ينجينا من النار!
ارتفع صوتها وقد أخذه الحماس:
«أذكركم بما قال إمامنا الجليل في خطبة الجمعة، فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين. لقد قال:
(ليعلم الذين يستنكفون واللاتي يستنكفن من هذا اللباس الإسلامي أنهم جميعاً يعلنون الحرب على الله) وهذا ما جعل الشيخ الإمام حسن الغضبان يصرخ في خطبته محذراً:
(المرأة اليوم خصوصاً المثقفة – داعية زنا – تشيع الفاحشة بكل الطرق، فكرياً وسلوكياً وأخلاقياً. وهي لذلك لا تستحق أن يؤاخذ الرجل من أجل اغتصابها).
انعقد لساني الذي همّ بالصراخ.
ولأول مرة، تجمد جسدي وتحجّر غير قادر على الحراك.
.. «وليعلم الذين يفضلون السفور وإشاعة الاختلاط وجر المسلمين إلى الفتنة والفساد، ليعلموا أنهم بهذا ظالمون. (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلون) صدق الله العظيم».

    وجدتني مطوقة بالنساء. والجدران والحرام. موعودة للنار. الحرام يطوقني من كل جانب، وآيات من الذكر الحكيم تقتطع من سياقاتها لتمضي على شهادات التحريم والتكفير والرجم والاغتصاب..

وأقبل أبي..
فتح النوافذ.. سمّى باسم الله. وجلس
الغرفة الشرقية تفيض بنور الشمس. أسرعنا في نصف حلقة حوله. سيبدأ درس الصباح. درسنا الديني. الساعة
العاشرة، على مدى أيام عطلة الصيف.
كنا ننتظر الدرس الصباحي. فهو فاتحة الخروج إلى البحر والارتماء في مياهه المنعشة.
.. لمَ لم نكن نشعر وقتها بكل هذا الخوف؟ وهول كل هذا الحرام؟!

    كنا نسرع بتنظيف البيت قبل الدخول.
أرش أنا ساحة البيت الرحيبة تحت كرمة العنب بالماء الفائر من محرّك البئر. يركض الماء يغسل مربعات الجليز الكبيرة البيضاء. أدفع الماء المنعش بالمكنسة حتى الحافات ليروي أحواض الزهر المحيطة بالساحة الواسعة..
أترك الساحة مبللة تلمع تحت أشعة الشمس الصباحية والأزهار حولها منعشة راوية والتربة تفوح بعبق الأرض المسقية. يرتب أخي أحمد المقاعد البحرية الملونة حول المنضدة البيضاء في الركن حيث نقضي العشية، قبل الجولة المسائيّة على الشاطئ، نطالع قصصاً أو نخيط عقود الياسمين: عقداً لأمي وعقداً أضعه حول عنقي وأكمل أحياناً إسورة وقرطين أعلقهما على أذني فيتدليان حول وجهي ببياض الياسمين المنعش. تضحك أمي وتقول:« ما أحلاك!» يساعدنا أمير. فيضع محبس الحبق فوق المنضدة البيضاء، ويكنس الممشى المقابل من الرمل الذي ذرته الريح – حتى باب الحديقة – رغم حداثته.
    بعدها ندخل الغرفة المفتوحة على الساحة. يجلس أبي يقرئنا نصيباً من القرآن. نفتح جزء عمّ. نحفظ معه سورة جديدة أو بعض الآيات.. يحكي لنا عن الصحابة والرسول والغزوات وما يروى عن أخلاق الرسول الكريمة وسماحته. كان يقنعنا ويمتّعنا بدرسه. لم تكن نخاف! كنا نحب الله ونحب نبيه ودينه. كان يقول:« كل حديث عن الرسول يقبله العقل فهو صحيح وكل حديث لا يقبله العقل فهو كاذب».
سألته مرة عن حديث مخيف سمعته من جدتي عن الرسول لم أعد أذكره. أجابني متمهلاً ونظره المشرق يرنو إلي ويتجاوزني بعيداً: لقد كان الرسول يقول: (بعد وفاتي ستتكاثر الأحاديث والروايات المنسوبة إلي، مثلما كان ينسب إلى الأنبياء السابقين عدد كبير من الأحاديث التي لم تكن صادرة عنهم وما يشاع قوله وكأنه صادر عني، يتعين أن تقارنوه بكتاب الله فما كان متوافقاً معه فهو مني، سواء قلته في الحقيقة أم لا) وقد كان عمر بن الخطاب يأمر الصحابة أن يقلّوا الرواية وهذا ما جعل فقيهاً جليلاً مثل أبي حنيفة لا يروي غير سبعة عشر حديثاً عن الرسول، أما سيبويه العالم الجليل فلم يجعل الحديث من الشواهد في إثبات اللغة والنحو لتغير الألفاظ عند الرواية.
لذلك طلب الرسول عليه السلام (لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب شيئاً فليمحه).
كنا نستمع إلى الدرس الصباحي فلا نخاف ولا نرهب. بل نحب الله أكثر ونحب نبيه ونحب الآخرين. كانت الرحمة واسعة وإلهنا رؤوف رحيم.. فما الذي يحدث الآن؟
وكيف حلّت كل هذه القسوة والعدائية لتحاصرنا كل هذه الظلمات؟

    يفتح أبي الباب، بعد ساعة. نركض خارج الغرفة مزقزقين فرحاً بالبحر الذي ينتظرنا. نلبس بسرعة مايوهاتنا، يأخذنا أبي إليه. نسبقه لنرتمي في الماء، نرش بكويرات الفضة المتناثرة وجه السماء الضاحكة.

    .. واختفى أبي والبحر، والسماء الضاحكة. واقتربت الجدران. اختنقت الغرفة بنسائها. وصوت عبد الحليم الذي كان يرافقني بعض صداه، ابتلعه هدير النار الذي ارتفع عالياً في أذني.
«حرّمت على المؤمنين مدارس التمثيل والفنون والتجميل، فما بالكن على النساء؟ هي حرام عليهن! حرام! حرام!»
شبّ شوك بظهري. أردت الخروج. هممت بالوقوف. ولكن تلك النظرة! نظرة المرأة الغامضة الملتحفة سواداً صوّبت نحوي.
نظرة عميقة آسرة يشع سوادها الهادئ بالرضا والاطمئنان وبغموض غريب آسر.
شدّتني النظرة الآسرة. تجمدت في مكاني وتساؤل حارق يبقيني، ينتظر الجواب: ما الذي يجعل امرأة ناضجة درست وتعلّمت مثلها، تصدّق وتؤمن بكل هذا الشر الذي يسكنها، هي المرأة، وكل بنات جنسها حتى تكون كما جاء في كتاب اليهود المحرّف، أمرّ من الموت، وأخت الشيطان؟ وحتى يلفها كل هذا الحرام؟
قريباً من الباب كنت وهنّ أمامي في نصف حلقة، متجهات إليها، موليات الظهور إلى الباب. كانت جالسة على السرير العريض الممتد على عرض الغرفة. فوقها تتدلى الناموسيّة الشفافة البيضاء فاتحة الجناحين لينعقد طرفاها عند حافتي السرير، تزيد الأخت الزائرة مهابة. والحاجة زكيّة تردد من حين لآخر:

    «الله ينجينا!
الله ينجينا من النار!»

    ومريم وسلوى أصغر البنات لا تنبسان، مستسلمتان لما تسمعان والخوف من الجحيم يسيطر على الرؤوس المحجّبة.
كدت أقف أرفع الستار السميك المدلّى على الباب، وأخرج. ولكنّ نظرتها العميقة الآسرة وأريحيّتها في الكلام، والاطمئنان الباسم على وجهها الأسمر – رغم بؤس المصير الذي تعد به النساء – سمّرني في مكاني، لا أبرحه.
كانت تتحدّث عن الكاسيات العاريات ويداها ترتفعان من حين لآخر فتبدو الأساور الذهبية مضيئة سواد اللباس، وأحياناً تمسح على صدرها حامدة الله على نعمة الهداية، فتلامس أصابعها العقد الذهبي الذي تدلى منه مصحف كبير ترصّع ذهبَه اللآليء، يكاد يلامس الحزام.
عاد الصوت قاسياً منذراً ضاغطاً على كلّ حرف:

    إنّ أكثر أهل النار: النساء. صدق رسول الله.
بدا بعدها أكثر ليناً.
«ولكن لا تنسين يا أخواتي! إن الله غفور رحيم! (إن ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)».
بدت نظرتها تصوب نحوي. ترمقني. تلامس شعري العاري. وسريعاً ما تنسحب بعداً. وتلك البسمة التي لا تكاد ترى تمسح وجهها.
»لقد هداني الله كما هداكنّ! كنت لا أرتدي الحجاب وأخرج كل صباح للعمل تاركة بيتي وأولادي. أذكر زينتي عند خروجي وأنساها لزوجي، ولكن الله هداني إلى كتابه العزيز. كما هداني إلى نصرة ديني بالتقوى والدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر.
فلنطع ربنا فيما أمرنا به. لقد كلّفنا بأخطر مهمّة. ألا وهي تربية الرجال. فلنتق الله فيما كلفنا به حتى نكون أبناءً صالحين يعملون بدين الله. إن نصيب المؤمنات التقيات المحافظات على أسرهن، المطيعات أزواجهن الجنة. قال رسول الله: (إذا ماتت امرأة وزوجها عنها راض دخلت الجنّة)!

    كان الصمت يجثم على الرؤوس وهنّ يستمعن إلى درس الأخت راضية. إعجاب يشعّ من العيون تتخلّله أحياناً خشية ورهبة يمازجها لمعان نشوة ما. نشوة السائر على الصراط المستقيم إلى الجنة. فقد لبسن الحجاب وأطعن الله في أخطر ما أمرهنّ به: إبعاد الفتنة على الرجال وطاعة الأزواج.
«جعلنا الله من القلة التي وعدها بالجنة. آمين يا ربّ العالمين!»
تتالت الأصوات داخل البيت العتيق:

آمين يا رب العالمين.
آمين يا رب العالمين.
آمين يا رب العالمين.

................................


    حلّ غروب ثقيل على الدار.
رفعتُ الستار وسحبت جرعة هواء قبل أن أختنق وخرجت وقد انتهى الدرس. تركتهنّ واقفات يسائلن عن الأولاد والأحباب واللقاءات القادمة، أسرعت أقطع صحن الدار وأرتقي السلّم الضيّق إلى فوق.

خالد!..
خالد!.. أين أنت؟

    لم تركتني للنساء؟! لعيون المدينة تصوّب نحوي سهامها.. لجبال الحرام تطوّقني وتكبّلني.. ترمي بي لجهنّم، لأنّ شعري طليق يلاعب الريح وجسدي يهوى البحر وإشراقة الشمس، فتنصب عليه كل الذنوب، وكلّ الخطايا تمحو صومه وصلاته وعفته.
.. ها أنت تترك أهل الدار لخوفهم من جهنّم ولجلسات الداعيات إلى الدين الجديد فهل تراك – مستتراً – راضياً تتخفى خلفهن ليسهل التدجين؟!
أعرف!
لباسي الخجول – في كل المناسبات – يروقك وزينتي ترضيك! خيط الكحل حول عيني وأحمر الشفاه الذي آكله بلساني وزينتي السريّة، كلما دعتني مناسبة، لا تؤذيك.
لغة أخرى بيننا غير لغة الدار!
قريباً كنت دوماً. فلم تبتعد الآن؟ وتتركني لهنّ؟ لِمَ تفتح أبواب القلعة لتدخل ريح الجحيم؟
تراك لا تدري؟ أم يحلو لك – أنت أيضاً – ملاعبة النساء لعبة التاريخ السحيق؟

    دخلت أدفع الباب ورائي مسرعة قبل أن يلحق بي وهج النار. كان كتاب ستاندال لا زال مفتوحاً على المنضدة.
والمذياع الذي تركته صادحاً بصوت العندليب ينشر أخباره المظلمة عن العالم. ضغطت على الزر أسكته.

    اقتربت من النافذة الضيقة المستطيلة أنشد هواء نقياً لا يحمل رائحة الأزقة. وقف في وجهي البرمقليّ بثقوبه الضيّقة ودكانته الحائلة. كدت أدفعه ليسقط. كان مبنياً إلى الجدار، لا يترك غير مسافة صغيرة تمتد منها اليد فقط لتلامس الخشب العتيق المتقن الصنّع، يحجب الوجوه المطلة عن السطوح المقابلة والشارع البعيد.
ظللت واقفة أمام الحاجز القديم. والحرام الذي ألبسنني يغلفني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي.
مع الحرام ووهج الجحيم، ظللت أترقب متى يعود خالد.






9





    فجأة التمع خاطر!
وقررت:
سأقتلع هذا الحاجز القديم اللعين.
أجل حين تعود هذا المساء سأطلب منك اقتلاعه، ليدخل الهواء طليقاً. وتنتشر الشمس غير شحيحة، على جليز البيت القديم وجدرانه الكئيبة، تطرد رائحة الرطوبة. تعيد بهجة النور. تزيل بعض ثقل الصدر الذي صار ينتابني – كلما انغلق علينا المكان – منبئاً بحساسية زائدة وأمراض صدر مزمنة تلوّح بالهجوم.
انتظرتك. ويداك الدافئتان في خاطري تعيدان إليّ الأمان يطرد المخاوف التي بدأت تتسلل إلى النفس. لن تتركني مرة أخرى وحيدة بين النساء.
لن تتركني – في بيتي معك – للنور الشحيح والرطوبة.
أكيد ستخشى عليّ، ستستجيب: تدعو جاركم البنّاء يقتلع الحواجز الخشبية القديمة المغطية للنافذة. ونعود من هنا نرى المدينة من أعلى رغم الأزقة الممتدة الواضحة المريحة، لا تسجنها غليظ الشِباك. وخيط البحر، البعيد، خلفها عند الأفق، سيمتدّ أكثر اتساعاً وزرقة وبريقاً. قد نعود نرى حتى النوارس المحلقة في البعيد.

.................................


ارتفعت دقات باب السقيفة عالية. تلاها صوت سلوى مسلّماً:
-أهلاً سيدي!
التفت إلى مرآتي. تخللت أصابعي شعري الطويل. نثرته على كتفي. واتجهت صوب الباب.. لم تكن صاعداً إلي. شاهدتك بقامتك الشامخة تشق صحن الدار وتدخل غرفة الحاجة.

    حين صعدت إليّ، كان الليل قد انتشر.
جلست على أريكتك المفضلة المواجهة للتلفاز.
بادرتك:
-خالد! لم لا نقتلع البرمقلي؟ إنه يمنع الشمس والهواء من الدخول.
واجهتني عيناك. حدقت بي.
-ما الذي دفعك إلى هذا الطلب الغريب؟؟
-.. .. .. .. .. .. .. .. ..!
-هذه دار العائلة! دار الجدود! كيف نتصرف فيها؟.. بدون إذن الآخرين؟
-اسألهم! طبعاً سيفضلون النوافذ المضيئة المفتوحة للهوا ءوالنور.
قلت مراوغاً:
-هذا البرمقلي جزء من الدار! من هندسة المدينة العتيقة! إنه تاريخ! لا حق لنا في مسه! في تشويهه!.. بدعوى العصرنة غصباً عن رغبة مشيديه ومالكيه.

    وامتدت يدكَ القمحية المشعرة إلى كتفي العاري تلامس استدارته وأنت تبتسم.
-لا تهتمي! فبيتنا المنتظر ستكون نوافذه كما تريدين.
رفعت يدك عن كتفي.
-كيف يكون فتح النوافذ للشمس تشويهاً؟
أم أنها خشية النور وقد ألفت العيون ظلال الأزقة وعتمة زوايا البيوت القديمة ومقاصيرها؟.. ألا يمكن أن نتجاوز ما أراده لنا الأولون؟!
واجهتني، محدقاً فيّ من عليائك. أمسكتني من كتفي الإثنتين، وعادت أصابعك الساخنة تضغطان وتنسحبان بتمهل وإغراء على كتفي.. ثم ابتسمت قائلاً:
-كم تحبين الجدال!

    وسرعان ما أوليتني ظهرك وخرجت نازلاً الدرج ملبياً نداء الحاجة زكية ووقع أقدامك المستارعة يصفع أذني. وتركتني مع وجهك الجديد: حرصك الغريب على انغلاق الدار على ذاتها، على أخشاب ماضيها البالية.
.. ألهذا الحد أنت حريص على القدم؟
ألأنك نشأت في مقاصيرها، وتواريت صغيراً ملاعباً أترابك في أزقة المدينة والتفافاتها؟ واختبأت أحياناً في عتماتها؟ صارت منك لتخشى عليها وعلى الدار أبسط التغيير؟
هذه المدينة الظليلة الملتفة المغلقة على نسائها وحكاياها! لها أحياناً طعم إغراء لا أنكره. لها طقس خاص لا أعاديه. رغم حبوي صغيرة على أرض خضراء ممتدة، أمام بيت مفتوح دوماً لنور الشمس وشجر البرتقال والياسمين.
ومع ذلك، تستهويني هذه الغرف الرحيبة الممتدة الظليلة بألوان جليزها الزاهية.
تستهويني هذه الجدران المكسوة بالجليز الإسباني الملون برسومه الهندسية الدقيقة الجميلة، وهذا الصحن المرخّم وسط الدار، عارياً، ناعماً يستقبل الشمس والأمطار.
وتلك الدكات المبنية المجلزة حول استراحة الدار العليا، في السطح. تستقبلني عندما أخرج من العليّ. ألقاها قبالتي. أمضي إليها وأتمدد أحياناً أتأمل السماء.
أرصف فوقها أصص النباتات الخضراء: القرنفل والياسمين والحبق والنعناع. أجلس حذو خضرتها العبقة، أقيم لي شبه حديقة صغيرة تتحدى جدران الدار العالية والسياج الحديدي المزخرف الذي يرتفع متراً أمامي، مطلاً فقط على صحن الدار المرخّم حيث تجلس أمك وأخواتك في العشيّات الدافئة مع من يزورهن من النساء فوق جلود الخرفان الممشطة البيضاء.
ولكن!
في الغرف المغلقة، يدعونا أحياناً العالم الخارجي والفضاء الرحيب. وإذا النافذة الوحيدة المطلة على الخارج في كل طابق من الدار، شديدة الضيق تعلوها الحواجز الخشبية السميكة القاتمة تمنع الإطلال وتقطع اللقاء.
تدعونا أحياناً الآفاق الرحيبة والسماء الواسعة.
وإذا جدران الأزقة الضيقة الملتوية متقاربة تتعالى تكاد تتلامس تقطع السماء، ولا تبقي منها غير قطع ورقيّة ضئيلة مستطيلة زرقاء في العلو البعيد تنذر العابر بالغرق البطيء في بئر ضيقة عتيقة لم يبق من مائها غير الوحل في حفر يسكنها العطن والفضلات.
تدعونا الشمس تشرق على سرير ليلنا، تغسله بنورها، تطرد عث حشية الصوف، وإذا البرمقلي واقف، عابس، وإذا الظلال تتتابع، تطوي الملاءات، وتتوغل داكنة في الأركان.

    وها هي المدينة العتيقة!
لأول مرة تتحول سؤالاً بيننا! لكنك تراوغ السؤال. تولي الظهر نازلاً إلى القبيلة. تترك السؤال معلقاً وتقطع الحوار.

.......................................

أفقت على صوت ينادي:
-راضية! راضية!
لازمت صمتي. فجأة، انتبهت أن الصوت يقصدني، مستعيراً تسمية الحاجة لي بدعوى صعوبة اسمي الغريب على الدار.
-شرود! – أخيراً دعتني سلوى –
تعالي! سيدي يناديك للعشاء.
نهضت متثاقلة. أطفأت النور وأطبقت الباب خلفي ونزلت.
لفحتني نسمة خريفية وأنا أقطع صحن الدار. سلّمت وشرعت أساعد في وضع المائدة.
ها هو شهري الثالث في هذه الدار. والحاجة زكية كعادتها، تملأ الصحون والجفنات، توزعها بين الكبار والصغار.
مدت لي صحن الكسكسي وفوقه كومتان من اللحم. قبل أن أضعه، أمسكت ذراعي.
-لا! هذا لولدي! رجل الدار!
ناولتني بعدها صحني وقد استكانت فوقه قطعة واحدة.
.. أكان يمكن أن أسأل لماذا؟
في جفنتهن وضعت قطعة لكل واحدة «فللرجل مثل حظ الأنثيين» كانت الحُجّة المقدسة – لا للإرث فقط – بل لكل المناسبات في هذه الدار.

    بعد ذلك وطول المدة التي ظللت أشاركهم الطعام، كان في صحن الرجل قطعتان على خلاف صحون النساء. إلا في فترة الحمل، كانت الحاجة تضيف إلى صحني قطعة صغيرة «لولد خالد القادم».
لم يكن يجدر السؤال. ولكن ضيقاً خانقاً كان يصيبني كلما جلست للطعام. لم أتخلص منه إلا بعد أن اصبحت أستقل بأكلي باقتراح خالد الذي كان يريد أطباقاً أخرى من الطعام، أنتقيها له مما تبقى من ذاكرتي من المجلات الفرنسية التي كنت أشتريها.
ولكن ذاك الضيق ظل يعاودني كلما اضطرني هواء الخريف البارد إلى غلق بابي ونافذتي. فقد ظل البرمقلي يقف دوماً في وجه نور الشمس فلا يأتي منه إلا نثار ضئيل. والرطوبة الكامنة، بدأت تصعد رائحتها من أعماق الجدران، والعث اللامرئي شرع يتكاثر في الفراش وفي الزوايا الداكنة، يوقظ حساسية مفرطة سريعاً ما تؤدي إلى التهاب مجاري التنفس فيزداد الضيق والاختناق.

    وذاك الحنين!
ذاك الحنين الذي أنامته راحتا خالد الدفيئتان، إلى النغم الذي سأعزف ويسافر بي إلى الآفاق الفضية الزرقاء!..
تيقظ. عاد يهمس لي، يدعوني. يجيش داخلي، فما عاد الحب يفتح كل الدروب – كما كان – فلعلّ، تفتحها الأنغام!
ويفضحني البوح وأسأله: متى يشتري لي العود؟ متى أتعلم العزف؟ فيراوغ ويغير وجهة الحديث. وبين المراوغة والهروب يظل السؤال معلقاً.. ولكن إلى متى؟
.. إلى متى؟






هامش 4





    ها هي ريح الشمال تهب في وجهكِ من النافذة التي سحبتِ بلورها إلى النصف، بينما السيارة تطير مزمجرة هادرة بين الحقول العارية، متجاوزة عربات الشحن المعبأة في طريقها إلى مدينة الشمال. يُخمد هديرها صوتكِ الخافت الضئيل، وقد جرحكِ العطش.
-خالد! أريد ماء!

    ها هي ريح الشمال توقظكِ! تعيد لك أصوات المدينة العتيقة التي تركتها هاربة بجنونك. بشظاياك! ولكنها وشمت أيامك الماضية. حفرتها حتى العظم.
فكيف من الوشم القاسي الهروب؟

    -هل عندك ماء؟
رفعت الصوت قليلاً.
أجابك خالد:
-قارورة الماء مكانها. بين المقعدين. خذيها واشربي!

    اشربي يا شرود!
اروي جفاف الحلق! واستريحي في مقعدك!
عودي إلى وصايا الطبيب العشر وأسدلي ستار النسيان!
هدهدي الذاكرة يا شرود!
هدهديها لتعود تنام! فتنهضي من جديد إلى الحياة بلا ذاكرة!
ومع ذلك، خالد يعود بك إلى هناك.
فكيف تنام الذاكرة؟!






10





    شعشعت شمس صباح الأحد في صحن الدار.
فتحت الأبواب وبلور النافذة الوحيدة المحجّبة المطلة على الزجاج. مسحت أرضية العلّيّ والاستراحة العريضة الممتدة أمامه حيث الدكات المجلزة. رويت نبتاتي الصغيرة في الأصص. ثم انطلقت خفيفة إلى مكتبة القلم في الزاوية المقابلة للميناء القديم لشراء صحيفة الصباح، فقد فضل خالد عدم الخروج ونزل إلى العائلة.
في المكتبة، لقيت أخيراً مجلة الفنون قد عادت إلى الصدور. دفعت الحساب. وعدت فرحة بالمجلة الرفيعة العائدة بعد اختفاء شهور طويلة سببته الحرب الأهلية في لبنان.
لم أحفل كثيراً بالزبالة المتراكمة في زوايا الأزقة الضيقة وتحت الجدران المحفرة وقد بعثرتها القطط. ولا بنزق الأطفال الراكضين بين السقائف والمنعطفات. فالمجلة في يدي كانت تعدني بوقت لذيذ مع الشعر والفنون والقراءة الممتعة. وبحوار ساخن يروق لي أن أغريك به حول بعض مواضيعها الجريئة.
وجدت باب السقيفة مفتوحاً. والمياه برغاوي الصابون تسيل على الدرجات من وسط الدار. بحذر وهدوء صعدت الدرج وأنا أتصفّح المجلّة وأقرأ بعض العناوين.
فوجئت بكَ – وقد عدت – واقفاً ساكناً إلى النافذة في أقصى العلّيّ. لم تشعر بدخولي. بدوت مأخوذاً بمشهد المدينة المغسولة بالشمس من خلال الثقوب، رغم انك نادراً ما تؤخذ بجمالية مشهد ما. فالعقل والمنطق والحسابات دليلك في كل فعل، قبل أي فن أو جمال.
اقتربت منك. لم تتحرك. بدت عيناك ضائعتين في ثقوب البرمقلي. رفعت يدي إليك. لم تلتفت. لامست أصابعي كتفك..
ما الذي يهيم بك بعيداً حتى أتلاشى وأنا شديدة القرب منك؟!
تطلعت إلى حيث يهيم البصر. بدت على السطح الواطئ المقابل ابنة الجيران تنشر الغسيل، تولي ظهرها للنافذة، وقد رفعت طرف فستانها المشجر الزاهي الطويل وشدته إلى حزامها. بدت منحنية تأخذ الغسيل من الطشت وقد تعرت ربلتا رجليها المصقولتين الممتلئتين، وأعلى الفخذ المكتنز في بياض وردته الشمس.
كانت شفتاك مفتوحتين مبتلتين بالشهوة.
تسارعت دقات قلبي وأنا أدعوك:
-ماذا تفعل؟
دون أن تلتفت أجبت:
-أتفرج!
ولم تحد عيناك عن الفخذ العاري للشمس.
عاد صوتي محتداً يفضحه انفعاله:
-ألم تجد غير التفرج على ابنة الجيران؟

.. .. .. .. .. .. .. .. ..

ظللت جامداً! صوتي لا يأتيك. وجسدك ملتصق بالنافذة. بعد فترة بطول الدهر، التفت، نصف التفاتة إلي، وسألت باستخفاف:
-.. وماذا في ذلك؟ «كل شيء أحباس إلاّ النظر يا ناس!»

    أوليتك ظهري.. أخذت عاصفة صمتي وقهري ومجلتي وتركتك. عدت للفرجة خلف البرمقلي الذي رجوت قلعه، وإذا به يقف حجاباً رائعاً يخفي الشهوات السائلة ويحميها، يبارك المدينة العتيقة لتستر جيداً الشهوات وتخفي الأسرار.
ركضت إلى المقصورة. على الفراش أخذت أصابعي المتوترة تورق مجلتي.
ما إن أخمدت رأسي فيها، حتى سمعت الباب يفتح وقدميك تضربان الجليز، وأنت تدخل ترمي قميصك. تقترب.. تبعد مجلّة «الفنون». ترميها بعيداً. وتحتويني بين ذراعيك.
المقصورة مغلقة والستائر الداكنة تتدلى حتى الأرض، تسد الثقوب. عريتني!.. لم يكن جسدي في النور. لم يكن فخذاي يلمعان تحت الشمس. كان جسدي في شبه ظلمة، شديد البرودة، وروحي مبعثرة.. تلهو بها رياح الخريف.
أمسكت بكتفي وعيناك في عيني، تفيضان شهوة وشبقاً.

    كان صوتك يهمس: -أنت غير كل النساء! هذا ما أريد.
وكنت أكتب حالمة: «الحب يفتح كل الدروب».
ولكن! ها أنت تغلق الدروب وتفتح نوافذ الشهوة الحارقة! وتستبيح جسدي المثلج.. تنزع أكفانه.. وتوقد حوله النيران.

    رغم البرد والخيبة والظلمة التي احتلت القلب، وجدتني عصفوراً صغيراً يرتعش.. يختبئ في عشب صدرك، ووتر يهمس في الأعماق، همساً خافتاً يوقع على خفق قلبي ليموج نغم ناعم رقيق يأخذني لنطير معاً.
أجل! ما زال الحب ينبض، يوقع لحناً ساحراً! لن تكون بدونه حياتي معك.
نارك حارقة! وأنت قادر! قادر أن توقد موائد الجحيم وتفتح قصور الجنّة، وتجري وديانها بأعذب الألحان.





11





    جاء أمير.
أتى بعناقيد العنب من كرمتنا وبباكورة شجرة البرتقال. أقبل نحوي وانحنى يقبلني من خدّي وعطر البرتقال يسبقه بالسلام من شجرتي البعيدة.
لا أدري، لم بدا لي وجهه يشبه وجه تشي غيفارا. ألذلك الشعر الأهوج – رغم نعومته – المسترسل الخصلات على الجبين؟!
ألعمق عينيه الكبيرتين؟ أم لتلك الأشعار التي اكتشفته يكتبها ويخفيها بين أوراقه، ويستعد لنشرها في مجلة معهده؟
أم هو إحساس غامض بقدر شاعر ثائر في الطريق؟

    أمير ما زال صغيراً ومع ذلك، يلتهم كل الكتب التي يجد. يتقدم بسرعة وتفوَّق في دراسته. يقترب مسرعاً من الجامعة قافزاً على بعض سنوات الدراسة بتزكية مدرسيه متجاوزاً أترابه.
وضع أمير سلة الثمار على المنضدة. ظل واقفاً. نظر طويلاً إلي.

    -ما بك؟
.. كانت الأصوات تأتي من الأسفل عالية. الأسطل الساقطة على الرخام. الأواني المتلاطمة التي تغسل في المطبخ.
صياح الأطفال وخصامهم.
-ما بك؟
    دعوته للجلوس وهربت من عمق عينيه.
سأل عن اللحن الذي حدثته عنه وسأوقظ به المدينة النائمة وأفاجئ به سي الطاهر.. عن العود الذي سيشتريه لي خالد.. عن الدراسة والجامعة.
ابتعد نظري إلى النافذة.. صدّه البرمقلي العتيق القديم. أعاد أمير السؤال ملحّاً. قلت:
-لم أبدأ الدراسة بعد!
حدثني عن الحَمَام في بيتنا. ذاك الذي رعينا فراخه معاً حتى رفرفت عالياً.. عن الأغاني التي كانت تملأ الدار حياة وطرباً، وتميل رأس عمتي عائشة، والتي تلاشى صداها وغرق في الصمت.. عن بيتنا وأشجاره وياسمينته.
سأل طويلاً عني. لم أجد غير «أوراق الزيتون» أمامي، ديوان محمود درويش أسكت به الأسئلة الحائرة.

    ومضى أمير
شاهدته ينزل الدرج، وفي عينيه خيبة صامتة مداراة. بقيت وحدي. لم أبح له بمرضي المزعوم! لم أحدثه بأنه أغمي علي وأني رغم كل احتياطاتي حامل، وإذا لم أسقط الجنين، لن يقدر جسمي الهش على السفر المتوالي إلى كليتي في العاصمة. لم أقل له أن خالد قال لي منتشياً:
-رغم أني لا أريد الآن طفلاً يشغلك عني، فيمكن – إن قّدِّر له البقاء – أن تجعلي هذه السنة لراحتك. سنة لنا فقط!
أنا وأنت. قبل أن يقعدك طفل أو تشغلك عني دروس!
وحين عارضت بشدّة، اقترح أن أكمل الدراسة عن طريق المراسلة. « جامعات أجنبية كثيرة تتيح ذلك. خاصّة في مجال الصحافة!».. وقتها يمكن أن يبقى الجنين ولا أجازف بعملية خطرة – حسب رأيه – على جسدي الهزيل.
لم أنتظر. ذهبت خفية إلى الصيدلية واشتريت دواء يريحني من حمل لم يأت أوانه.
في الغد، أخذتني أوجاع. قيدتني إلى الفراش حبال الألم تمزق رحمي. ولم يحدث شيء.
تحاملت على نفسي. قلبت مرات حشية الفراش الصوفية الثقيلة. غلّيت كل المسخنات.. الفيجل والأكليل والفليو وعود القرنفل والزعتر.. شربتها حارقة. مرات. ولم يعد يحدث شيء.
أخيراً سمعت من النساء عن حمام عربي قديم لا مثيل له، خارج المدينة، حمام بدائي محفور في الجبل. ينبع ماؤه الحارق من جوف الصخور، يداوي العليل، ويشفي داء المفاصل، ويخلّص النساء من خبايا الأرحام. حمام بعيد، خفي عن العيون. يكتم سري عن المدينة وخاصة عن أهل الدار.
فكيف أعلن ما أريد؟ وماذا أقول للنساء؟.. في بيت يحاصره الحرام من كل جانب! يهجم الحرام فيه من قارورة العطر. من أغاني الحب. من خصلة شعر تلقيها نسمة عابرة على الجبين. بيت لم يعد فيه الحلال غير ثقب ضيق على أزقة مدينة غارقة في الظلمات، في انتظار الجنة الموعودة للصالحين والصالحات.
وأنا أعصي قدري! وأرمي هدية السماء!
فكيف سيتقبّلن كفري وأنا أُسقِط جنيني وأقتله وذلك ما حرّم الله؟!
داريت كفري عن النساء وأخفيت لوازم الجريمة وتسللت محاذرة خارج الدار. حقيبتي في يدي تخفي عنهن الأسرار.

    أخيراً، قرية سيدي بشير.
نزلت من الحافلة القديمة المتهالكة. مشيت طويلاً في الدرب الترابي حتى باب الحمام الواطئ.. دخلت القبو الساخن. صرّ أمامي الباب الخشبي الثقيل، واستقبلتني الروائح السرية للنساء مختلطة بروائح الصابون و«الطفل» المبلل بماء الزهر والعطرشاء، واحتواني بخار الحمام.
السطل في يدي وعود القرنفل المسحوق في الطاسة النحاسية المغلقة بعناية في قاع السطل. تقدمت محاذرة، على أرضية إسمنتية، فوق سيول الماء، إلى بيت السخون.
أشباح نساء عاريات جالسات ومتمددات على الأرضية وعلى الدكة الواطئة. العرق يتصبب من السقف الواطئ الذي يكاد يلامس الرؤوس. الضباب الساخن يغمر صدى الأصوات.. المياه المتدفقة.. أصوات النساء الداعية.. ارتطام الأسطل بقاع حوض الماء والجدران. امتدت يدي تتلمس طريقي في غمام البخار. اقتربت من الجدار الحامي لحوض الماء وعلى الدكة الساخنة الواطئة جلست.
أخذت الطاسة النحاسية المغلقة من السطل. فتحتها. وامتدت أصابعي تطلي أسفل ظهري بالمسحوق الحارق البني.
والتصقت بالجدار.
اشتعلت نار في كامل ظهري. ظلت تشتعل حارقة. تكاد تسلخ الجلد.. عود القرنفل وجدار حوض الماء الحارق والبخار الكثيف الساخن.. كلها على جسدي.
أغمضت عيني على ناري.. واستسلمت لصدى الأصوات الملفوفة بالروائح المتناقضة تأخذني إلى عالم غيبي.

    كم بقيت هناك؟!
لا أدري! ولكن، حين هممت بالوقوف، كنت على وشك الإغماء. أمسكت بذراع قريبة.. وأظلم الحمّام.
لم أنتبه إلا على دفق الماء البارد ينهال على رأسي وجسدي، وأشباح عارية تجرني إلى صحن الحمام، والماء يتدفّق علي من أسطل القرويات، وأصوات تدعو بالسلامة وتتحسّر على الغريبة القادمة وحيدة إلى الحمّام.

    حين عدت، وجدت خالد ينتظرني قلقاً.
كان وفياً لعهده، لم يقل شيئاً للنساء. فقد رضي – على مضض – أن يكون الحمام البدائي محاولتي الأخيرة للخلاص. نمت مهدودة.
وانتظرت الصباح. ولكن لم يحدث شيء غير الغثيان الذي يعاودني كلما استيقظت. يومها جاءني أمير بعناقيد العنب وثمار البرتقال. ومع ذلك تركته يمضي، رغم شوقي واحتياجي إليه، يخلّفني لصمتي وشحوبي. مضى وظلت الأسئلة حائرة بلا جواب في عينيه.
وحدي، انحنيت على السلّة. حين تناولت ثمرة برتقال بين راحتي، أنعشني العبير. قطفت حبات من عنقود العنب.
تذوقتها. غادرني المرار وأنا أترشف الحلاوة السائلة في فمي.
ولكنّها لم تكن غير لحظات.

    توالت أيام وبقيت أنتظر.
أنتظر أن يحدث ما يزيل مرار فمي وغثياني. ولكن انضاف الإغماء. والظلمة صارت تراودني من حين لآخر. تقصيني عن خالد. عن أمير. عن سماء رحبة، أدعو فيها ألحاناً ساحرة عذبة تفتح النوافذ والأبواب للنور، والنغم البكر الجديد.
حجزتني الظلمة المتكررة في القلعة، فلم أعد أرى المدينة إلا من الثقوب. ومع ذلك بقيت، أنتظر.
أنتظر أن أعود أطير خفيفة، لا تقيدني أرض. أختار قدري وأحلّق في سمائي بلا أوزار، ولا أمسخ مسخاً يحولني حيواناً وبقرة ولوداً حلوباً. فكيف أمنح كياناً جديداً والكيان لم يكتمل؟! والروح لم تسافر بعد على غيمة اللحن الوردية إلى عالم الإشراق، فكيف توثق الروح؟.. وهل تقدر بعد، على الرؤيا؟!

    يوم جاء أمير، أخذ الأحلام معه ومضى دون أن يدري أن الحمام الذي حدثني عن هديله في بيتنا، كان ينوح بصوتي.
لم أقدر أن أوصيه خيراً بالحمام.

    مرّ شهر. والغثيان يسقط رأسي كل يوم في المغسلة لأبصق المرار ولا شيء آخر. وأمضي يومي بين السرير ووسائد الأريكة المبعثرة. لا أكاد أقوى على فعل شيء والمرار يملأ فمي وحلقي وحشاي.
أخيراً عُرف الخبر وارتفعت الزغاريد.
تواريت وأغلقت بابي. تفاديت أن يعلم أمير. ستهب ريحه ويحتد غضبه جارحاً.. «أين وعدك يا شرود؟».
انكمشت داخل العليّ. تظلم دنياي وتميد بي الأرض، كلما نهضت، ويمزق الغثيان حشاي كل صباح.
لم يعد يمكنني ركوب الحافلات.. لم يعد ممكناً السفر ولا الدراسة. حسم خالد الموضوع قائلاً: »يمكن أن تواصلي مع إحدى الجامعات في الخارج بالمراسلة«. قبلت حل خالد وانتظرت ردّ الجامعة على طلبي.
حين سألني أمير. لم أقدر على إطفاء شموعنا في عينيه. قلت إني مريضة. وسأعود للدراسة حين أشفى. وقريباً أتعلم العزف على العود، وسأفاجئه يوماً بلحن لن ينساه.
لم أقل له أن أوان التسجيل الجامعي قد فات. وعليّ انتظار السنة القادمة. لم أحدثه أن خالد ما زال يماطل لمجئ أستاذ موسيقى إلى الدار يعلمني العزف أمام أخوات محجبات، زاعماً أن رغبتي لن تتحقق إلا عند عودتي للجامعة. هناك النوادي الجامعية مفتوحة لكل المواهب والفنون.
لم أقدر على الاعتراف لأمير، أنا التي كان إيماني وآيتي: «الحب يفتح كل الدروب».

    مرّ شهران.
في منتصف الشهر الثالث، أفقت على لزوجة تغمر نصفي الأسفل. أضأت مصباحي ورفعت الغطاء. وجدتني غارقة في الدّم.

    منامتي الوردية دامية والملاءة البيضاء ملطخة تقطر دماً. قفزت من الفراش. رميت الملاءة على الأرض. وأسرعت مذعورة إلى الحمّام. نزعت ثيابي. فتحت الحنفيّة على أقصاها. وأخذت أغسل نصفي بالماء اللاذع البرودة. نهض خالد في إثري. أصرّ أن يرى ما هناك.
.. شاهدته يمسك بقطعة القطن الكبيرة من يدي وعليها تلك المضغة الصغيرة الممتدة الزرقاء القاتمة، التي وجدتها في بركة الدم.. تماماً كقطعة مزرّقة من الأمعاء يرميها الجزار من داخل الذبيحة يوم العيد.
في الصباح، أسرع خالد إلى غرفة الحاجة، في يده المضغة الزرقاء ملفوفة في القطن. انطبق عليهم الباب برهة.
ثم عاد خالد يصعد الدرج مؤكداً: لقد سقط الجنين.

    خرجنا بعد ساعة من عند الطبيب. لم يكن في فمي مرار ولا في عيني ظلمة. كنت خفيفة يقظة. لقد انتهى الكابوس.
أمسكت يدك وعدنا معاً. ليلتها خرجنا نحتفل بسلامتي دون اضطرار لتدخل طبي. كان الخريف في أواخره والرواد قليلون في المقهى البحري. جلسنا بعيدين، عند أعتاب الشاطئ. سألتني وعيناك تحضنان وجهي.
-والآن! هل أنت بخير؟
تناولت يديّ الاثنتين في راحتيك.
-أحبك دوماً!.. رغم غرابتك!.. أنت فريدة! لا شيء فيك كالنساء! لم يهمني وقتها مدحك أو ذمك.
ظلت أصابعي في يدك وصوت البحر الهادر في الظلمة صدى لكلماتك، لحديث عينيك الملغزتين بأسرار الليل. ومصابيح المقهى الملونة تنوس بظلالها الحمراء مع الريح على صوت الأغنية القادم من أعماق المقهى.
.. أنا لما حبيتك خطر على بالي
اللي جرى لي واللّي راح يجري لي.

    تعالى الغناء الساحر يحمل نبوءته، ناعماً شادياً، متلاشياً في هدير الأمواج.
بقينا مستسلمين لأصابع الريح الباردة الندية تجمعنا بوحدتنا على شاطئ مقهى الملاح.
تلك الليلة، تَرَكَنا الزمن، ومضى ينادم البحر والغناء.

    لم نكن ندري حين عدنا، كم هو الوقت.
ولكني نمت ليلتها في أحضانك نوماً ناعماً دافئاً عميقاً ورأسي يغمره دفء صدرك. والأحلام عادت تراقص حمائمي فيصبح هديلها غناء يحلق بي خارج الجدران، يعيدني إلى الإيمان بأن الحب يفتح كل الدروب.






12





    تراك تذكر؟
ونحن على الرمل المبلل، قرب بيتنا، أيام كنت تزورنا مرّة كلّ أسبوع، والموج يداعب أقدامنا، همست لك:
-إنّي أعشق الغناء.. تذيبني الموسيقى.
قلت لي: «إذن، غني لي!.. لي أنا فقط! أنا أيضاً أحب الغناء.»

    ولكني لم أغن لك.
كان حياء بدائي يتركني عاشقة صغيرة مرتبكة أمام شموخك وقوّتك. تلك القوة الصحراوية الساحرة التي هزمت كبريائي وشدتني إليك من أول يوم، عاشقة، حين تراك، يسقط الجناحان، تتكور حول نفسها. تدخل رحم الأمومة مغمضة العينين.. وترضع حبّك.
لم أغن لك.
ولكن، كنت أشعر أنك تسمع النغم يسري في دمي إليك. لم أحدثك بأن قلبي يفيض أحياناً. يتجاوزني. يتحوّل موجات من النغم الحاني. تتسع وتتسع. تتلألأ بالعذوبة. تحملني غيمات بلورية، ناعمةً تصبح. وأشعر أني لم أعد على الأرض. وأني أتحوّل إلى نغم يعلو ويرق ويعذب ويتلون بألوان قزحيّة، تعزفه أوتار السماء.
لم أحدثك. فقد كنت أراني في مرآة عينيك:
وقت القيلولة وقد حررتنا عطلة الصيف، أتسلل من غرفتي الظليلة الباردة إلى الشجر، أجول بين ظله. وصوتي يدندن بأجمل ما حفظت من أشعار المتنبي وابن الرومي وابن زيدون أبدع لحن، يغنيه صوتي الهامس للشجر. وحين يرضيني اللحن ويكتمل، أدخل بهدوء حتى لا أوقظ النيام. أتمدّد على سريري مغمضة العينين بنشوة الروح. لم أحدثك عن تلك الأيام، حين كنا ننتظر تلك الزيارة الموسمية المبهجة لعائلة سي الطاهر. ننتظرها نحن الصغار بترقب وفضول انتظارنا للعيد.
يأتي سي الطاهر، وزوجته نبيهة، ابنة عمنا السمراء الحلوة والخالة فريدة وريم وزياد وكل العائلة. يحتفي أبي بسي الطاهر. يجلسه على مقعده البحري المفضل فيحدثه سي الطاهر عن الرشيدية والمالوف والمشاغل في العاصمة.
وألتصق أنا بنبيهة. تضمني ذراعها وهي تمازحني:
-عروساً أصبحت!
نترك أبي وسي الطاهر الذي جاء للاستجمام والراحة، في باحة الدار، تحت خضرة الدالية.
ندخل الغرفة الشرقية، نغلق بابها. صغيرة كانت، ولكن يملؤها النور. نتحلق حول الخالة فريدة وقد احتضنت عودها. تأخذ نبيهة الدف. ترفعه في الهواء، وتنقره نقرة خفيفة إيذاناً بالبداية. ترتفع الأصوات العذبة على أنغام العود بالغناء رشيقة منسجمة.

أليف يا سلطاني
والهجران كواني
آليف
باء بليت بنظرة
تاء ته يا نجم الزهراء
جيم جار عني سلطاني
والهجران كواني
آليف

    نتبع الإيقاع بأكفنا وتتمايل الرؤوس مع الغناء. يتسارع العزف مع قطع أخرى من المألوف:

يا عاشقين ذاك الشعر
السع فؤادي عقرب
يا لا لا لا لا لان
السع فؤادي عقرب
الليل يقطع بالسهر
سل النجوم إن غربوا
وأنا على أول صيام
عاشق ولا يوجد طبيب

    يقوم أمير، على أطراف أصابعه. ينبثق وسط الحلقة كلسان نور. يطلق يديه للسماء. يدور متبعاً الإيقاع، دورة سريعة كاملة، طائراً في الفضاء، يد في السماء والأخرى تمسك الخاصرة. تتغير مواقع اليدين مع النغم. تضرب الرجلان الأرض بخفة الغزال. وينساب جسده الصغير خفيفاً رشيقاً مع الغناء، طيفاً ملائكياً يغازل النغم.

.. وأنا على أول صيام
عاشق ولا يوجد طبيب..

    يبتسم أبي مع سي الطاهر. نراهما من النافذة المفتوحة، والياسمينة المحاذية تبعث إليهما رائحتها المنعشة الناعمة والزهر في أحواضه أمام الدار ينساب مع نسائم الغناء.

.. أليف يا اسلطاني
والهجران كواني
آليف..

    مضى زمن. ولم أفتح لك الذاكرة التي أغلقتها، لتفتح لذاكرتي دفتراً جديداً.
كنت أراك تقرؤني، وأحسب أنك تترشف أنغامي بعينيك، كما تترشف باشتهاء والتذاذ قهوتك. فأنت الحبيب الذي بحثت عنه الروح وبه اكتملت. فكيف لا تقرأ ما تموج به الروح؟!
ولكنك كنت بحراً محيطاً. احتويت النغم، واحتويتني. وأدخلتني كهوف النسيان.
في غمرة حبّك، حتى ذاك التسجيل المدرسي الوحيد الذي كنت أحتفظ به ضمن أغلى الذكريات، ألقيته في أدراج النسيان.

    ذاك التسجيل الذي استحال ذكرى مدفونة بين أوراقي ونبوءة لقدري.. أم ترى هي الصدفة السّاخرة وحدها حولته نبوءة؟ فإذا الأستاذ يختارني دون كل البنات لتسجيل أغنية على العود، فلم أختر إلاّ »أيظنّ« لنجاة.
كان أستاذنا يمسك بالعود ينحني عليه. يداعب أوتاره، وعيناه سافرتا، كعادته كلما عزف، إلى فضاء بعيد مجهول.
آلة التسجيل مفتوحة وأنا أمامه، في ميدعتي الوردية الواسعة. ضفيرتاي الطويلتان على صدري. والبنات حولي جالسات، يتابعنني في صمت، ساهمات مع الأحلام والأشجان. وصوتي، ببحة الشجن، يسائل هامساً مع أنغام العود:

أيظنّ
أيظنّ أني لعبة بيديه؟
أنا لا أفكّر في الرجوع إليه!

    أغنية نجاة وشجني واللعبة التي لا أريد أن أكون، وهيام راعش حالم في صوت يبحث عن حبّ غامر بلا حدود، يكون لي مدينة ووطناً. كل ذلك اجتمع في ذاك التسجيل.
أكان قدري مرسوماً فيه دون أن أعلم أنه قدري؟ فأتيت أنت لتنسيني لعبة القدر؟!
كدت تنسيني حتى عهدي لأمير، حين أتيت بيتنا وشغلتني عنه وعن دنياي.
«لن أنسى يا أمير!.. سألحن لك قصيدة. سنسمعها سي الطاهر في بيته بباب الجزيرة.. سيفاجأ بها. سيفرح. وسيخرج سي الطاهر عن رزانته المعهودة الدائمة.. سيرتفع النغم في كل مكان، بكراً، لا شبيه له. تشدو به الأمهات للأطفال. ويغنيه الطلاب في الجامعات. يدعو لدنيا جديدة».
كان عهداً بيننا.

    ولكن حلم الصبا وعهده، بين يديك، بهتت ألوانه، وخبا ليسطع حبك. فالحب يغني، ويبدع ألحانه الخاصّة المشرقة.
هكذا أخذتني إلى دنياك. وأتيت، عالماً من الإغراء ورجولة ساحقة قادرة على نسف الأرض التي تسندني. حلم أفلاطون الذي رأيته فيك، أو وهمه، أسكت النغم الساكن الروح.
ولكن هل تسكت حقاً أنغام الروح؟ تلك التي كانت من الأزل أصل الكيان وغايته؟

    هنا تركتني. داخل القلعة العالية في أقصى الزقاق، وقد مضى الجنين وضاعت سنة الدرس. وجدتني لا أدري ما أفعل بأصابعي في حلقة النساء. أشغلها بتوريق مجلة، بحياكة كنزة، بإبرة تدخل وتخرج في تطريز منديل.. ولكن اصابعي تظل عطشى لرواء آخر لا تعرفه الدار، ولا المدينة الكسلى الغارقة في الخمول.

    هنا تركتني. وانشغلت بالإدارة والحسابات ومسؤولية القلعة وقبيلة النساء السبع التقيات المنتظرات دوماً رجل الدار. وإذا أنت سحاب راحل بعيداً عني بالمطر إلى جبال المسؤوليات.
تأتي آخر النهار. أسمع صوتك. أسرع أطل على صحن الدار، فلا أراك ولكن يأتيني بعض صداك العالي متداخلاً مع بقية الأصوات من داخل الغرف. يطول الحديث والكلام وتفرقع قهقهات.
أدخل. أدفن رأسي في مجلة أو كتاب. مع الليل تصعد تبحث عن تسلية التلفاز. ثم توقد ولائم الجسد.

    وجدتني على السندان في يدي كتب مفتوحة وعوالم زاخرة وانتظار. وفي الأعماق شوق غامض مجهول تيقظ. ومع ذلك، على السندان، تحت السقوف المقوسة الكئيبة، انتظرت أن تعود غيمتي الممطرة، القادرة على رفه السقوف وري الظمأ والتحليق بي في الفضاء الرحيب. فقد آمنت أن الحب ديني. فهل من السهل أن يمضي الإيمان؟

    عدت اغرس رأسي في كتابي، أعدني لعام الدراسة القادم، والشوق الغامض العطش يدعوني دوماً إلى الاغتناء. وإذا بابي يطرق. يدخل حزب النساء. يطوقني. يعرض أخبار الأزقة ومواعيد الزيجات القادمة وحفلات الختان وأقوال الشيوخ، وأحاديث الطاعة ومواطن الحلال والحرام.. خاصّة الحرام. الحرام. الحرام. الحرام. الحرام. يكدّسن في وجهي جبال الحرام. يرتفع رأسي الذي سرقته الكتب. يتحول عنيداً، صخراً، لا يقدر على استيعاب دروس النساء. وأتساءل: لِمَ هجم فجأة كل هذا التدين وكل هذا الحرام؟ أيعقل ألا يكون هذا إلا مجرد تدين بريء غذته الكتب الصفراء التي نفض عنها الغبار؟ ولم الآن بالذات؟.. لِمَ يحدث هذا؟!
بين تساؤلاتي وهواجسي، في وحدتي، بدونك، على السنديان، تحت السقوف الساحقة، عاد ذاك الشوق القديم. كدبيب نمل. ككائن سري، عاد يموج ويهفو إلى المجهول.. مجهول بلون البحر المنتشي. بلون الفجر القادم.. يتموسق.. يسري في دمي.. وإذا جسدي وقلبي أنغام تتوق إلى الارتفاع، لفتح النوافذ والأبواب للنور وكسر جبال الحرام الطالعة فجأة، كسرطان مهول في قلب المدينة. والارتفاع إلى السماء والإسراء إلى ذلك الإله الذي عرفته طفلة. إله رحيم يدثرنا برحمته وتقربنا منه موسيقى الوجود.

    في ذاك العشي، لأول مرة، وجدت لساني يبوح بسره حين أقبلت سلوى، صغرى البنات، سائلة. ونسيت أني في القلعة. ولكن في عيني سلوى الزرقاوين الداكنتين، كان هناك دوماً، دون عيون سائر النساء، مكان لصداقة تجمعنا، فهي الوحيدة التي تدرس، وربما الوحيدة التي تختلف قليلاً عن بقية النساء.
كانت تتمهل في الخروج كلما أتين. تقترب. تحدّثني عن الدروس والأساتذة والمعهد. تستعير بعض الكتب، وفي عينيها أسئلة دائمة تتوق للمعرفة.
دون مبرر ألقت سؤالها المفاجئ:
-شرود! ما الذي تتمنين الحصول عليه؟
ربما كانت تنتظر أن أقول لها طفلاً جميلاً أو عقداً من الذهب واللؤلؤ، أو.. فيلا على البحر.
بتلقائية أجبت: أحلم بامتلاك عود! عود أصيل أعزف عليه لحناً من تأليفي!
فتحت الدهشة عينيها. أسرعت تقول:
-ولكن العود حرام!! إنه يلهي عن الصلاة والعبادة!!
-من قال لك ذلك؟
-إنه الرسول عليه السلام! ألم تقرئي كتب الحديث؟!
تلفتت حواليها وكأنها تخشى الجدران. لم تمهلني لأقول لها: إن الكثير من الأحاديث كاذبة أو مغلوطة. ولأذكرها بما سمعت عائشة عن أبي هريرة إذ قال عن الرسول: »إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس« فغضبت عائشة وقالت: ما قال هذا رسول الله، وإنما قال: «أهل الجهالة يقولون إن يكن الشؤم ففي ثلاث الدار والمرأة والفرس» فدخل أبو هريرة فسمع الحديث ولم يسمع أوّله.
لم تنتظر لأدلّها على كتب أقل صفرة، وأقرب إلى المنطق والعقل في فهم الدين. أولتني ظهرها مسرعة، ونصف سلام طائر خلفها وخرجت مهرولة إلى الدرج.

    مرّت شهور. وفي انتظار الموسم الدراسي الجديد، بعت أقراطي واشتريت أرغناً صغيراً. رغم أنه لا يمنحني صدق أوتار العود وحساسيته، إلا أنه في انتظار الآلة الأصيلة، يستجيب لبعض صدى الصوت القادم من الأعماق.. صوت لا يخفت إلا في حضرتك، يخفض لك جناح الذل، ويستكين.
ولكنك أصبحت تبتعد وتنأى، وتمسي بعيداً وأنت قريب. حتى نقاشاتنا التي كنت تهوى حول واقع البلاد والعالم، وجنون حرب لبنان ونكبات فلسطين، ودهاء الاستعمار العائد إلينا مقنّعاً من ألف باب وباب، وجبروت الحكام العرب واستبدادهم.. كل تلك النوافذ التي كنا نفتحها معاً على العالم أصبحت مغلقة إلا في نادر الأوقات.

    يوم اشتريت الأرغن، كان قلبي يخفق بقوّة.
كنت أعلم أنك ستعود ككل يوم، تؤدي ولاء القبيلة في الأسفل، ولن تصعد إلا مع الليل.
دخلت العليّ، وكل الطفولة عادت معي تحمل فرحة اللعبة الغالية. أغلقت الباب، وأسرعت أنزع الغلاف اللماع الملون، وأخرج الأرغن من علبته، ألاعب أصابعه الحليبية الرشيقة.. فيترقرق النغم.. يرتفع.. يترنم معه صوتي بالغناء. وبرقة ساحرة، يسري تيار ناعم، غامر بالنشوة الكيان.
ظل الأرغن في حضني. أصابعه البيضاء تتراقص. وأناملي تحنو وتسرّ بالجوى، حين فتح الباب ودخل خالد. أسرعت أقول: -إنه هدية أمير!
وأنا أرى السؤال الأسود يقف عند الباب شائكاً في عينيك.
.. لم قلت ذلك؟! أكان خوفاً؟ وتجنّباً لنقاش لا فائدة منه؟ أم لأني كنت فعلاً، بطريقة ما، أشعر أن أمير هو الذي أهدانيه ودعاني إلى النغم؟! ولا بد أن أعترف وأهيب بهدية أمير؟!
نظرتَ إلى الأرغن ولم تنبس.
لم تبارك. لم تعلن رفضك أو غضبك الذي اختزنه صمتك. غيّرت ملابسك وعدت تنزل إلى الطابق السفلي.
ظل صمتك الذي عاقبتني به، يجلدني. ومع ذلك وقف السؤال في الحلق يتحدى الصمت: لم يخشَ العزف وارتفاع اللحن؟ أهي غيرة من كل منافس في الهوى؟
أهو طبع الأقوياء والأسياد؟ يخشون كل ما يوقظ العيون والإحساس، حتى ولو كان مجرد لحن صادق جميل؟!

    «أنا أيضاً أحبّ الغناء. فغني لي»
كنت تقول. ولكني أسقطت من الذاكرة »لي أنا فقط«. حدس ما بداخلي، ربما، كان يخشى بقاءها حتى لا أعي أنها كانت الجملة الوحيدة الصادقة.
ولم أغن لك.
في الغد بعد خروجك، أغلقت بابي على وحدتي. وضعت الأرغن في حضني، انبعثت الأنغام تعلن، في هدوء الدار، خطيئة الهاربة من تقوى المدينة.
من ثقب الباب، شاهدت عيوناً مظلمة تتتابع تحدّق بي. اختنق وقتها اللحن بين يدي.
«همس الشيطان!»
«أعوذ بالله من همس الشيطان!»
كان الهمس يأتيني من خلف الأبواب والجدران، دون أن تواجهني العيون.
ومع ذلك كانت آلات الإيقاع التي ترقص أردافهن في تلك الأفراح والولائم التي يختلقنها لأبسط مناسبة لإهدار الوقت وعرض ما يكدسن من مصوغ، تلك الآلات، كانت بعيدة عن همس الشيطان! فهي تحرك الأرداف ولا تحرك القلوب والأرواح.

    صمت الأرغن، ولكن أرضي ظلت تجيش في الأعماق، حبلى بالمجهول، وأمير أمسى بعيد. زياراته تناقصت، فقد انشغل بكتبه وأشعاره وعالمه. ونسي أن أرضي في شوق إلى جواده المنطلق، يقدح الشرر، ويشعل شوق البذور للنور.
وظل أهل الدار يدعونني للصلاة معهم. يلحون على صلاة الجماعة في غرفة الحاجة زكية عندما يرتفع الآذان، متظاهرين بالسكوت عن آلة العزف التي يتسلل صوتها، رغم الباب المغلق، حين يفيض بي الشوق.

    كنا نواظب على الصلاة. نحفظ القرآن، نذكر الله دوماً. لم يكن العود حراماً، ولا صوت أمي عورة وهي ترتل القرآن وقد اجتمع الأهل نساء ورجالاً في باحة الدار تحت دالية العنب.
كان صوت أمي يرتفع بالآيات البينات وكله عذوبة ونغم.
تلك الأمسيات الصيفية الرائقة!
يقوم أبي للصلاة، مع الغروب، بعد خروج الضيوف.
حين ينتهي من صلاة المغرب دون أن يدعوني، آخذ السجاد. أفرشه بعيداً، هناك في الممشى المحفوف بالشجر.
وحيدة أدعو إلهي، لا أريد أن يشاركني مناجاته أحد. أرى القمر يطلع، والسماء الزرقاء، الزرقاء بقمرها المستنير تظللني، فأطيل صلاتي، وينزل الله من عليائه، يمنحني رحمته وجماله، ومحبّته، ويربّت علي. فأحبّ الله أكثر وأطيل بين يديه السجود.
يعزف لي وقتها الوجود. وشوشة الشجر. هدهدة الموج. غناء صرصار بعيد. انفتاح الزرقة الليلية الحانية لكل الكائنات. ويرف في جوانحي اللحن.
وتصبح صلاتي اتحاداً بالكون الأزرق الجميل، وأنا في حضرة حبيب يحضنني ملكوته وتعزف لي موسيقاه.

    أين اختفت تلك السماء؟
أين اختفى ذاك الإله الحبيب؟ ولِمَ أخذ معه كل الجمال والرحمة والمحبّة وغاب؟ وتركني لإله يحرمني النغم وجمال الوجود، ولا ينذر بغير الجحيم؟!
ترى هل اختفى حقاً إلهي ذاك؟
أم أن أخطبوطاً مجهولاً قادماً يمد أصابعه المخيفة، تقتحم بيوت المدينة، تطلق الظلمات، في الأرض والسماء، تخفي نور إلهي، حتى يسهل ابتلاع المدينة الغافلة الفزعة من الجحيم، بينما هي تشعل جحيمها؟