إليك راوية الأشعار ومرتلة القرآن يا امرأة خارقة أنشدت على مسامعنا وهي على سرير الإنعاش أيامها الأخيرة قصيد العصفور السجين وأجهشت بالبكاء وهي تذكر أطفال فلسطين النازفين في الشوارع إليك يا امرأة الغياب الباقية أمي "حبيبة" .. فنبذناه بالعراء وهو سقيم سورة الصافات آية 145 نـــــــــــــــداءات الفجــــــــــــر الشتـــــــــــــوي 1
ضج البيت، وعلا الصراخ. شاهدتهم يتراكضون..حسام يرفع السماعة ويضرب على الأرقام..سناء تبكي قرب السرير..علي يدعوني ويعيد النداء، ويخرج راكضا إلى أبيه..وسلمى تفتح النافذة لغبش الصباح الطالع..تعجّل بترتيب الغرفة..تلمّ الحبات المبعثرة وتجمع شظايا الزجاج المكسور..تبدل الملاءة المبلّلة، وتفتح أخرى ناصعة البياض وترفع علي الغطاء..تسوّيه.. قلت لها أني لا أشعر بالبرد.. لم تجب..ظلت تنظر إلي بأسى، كأنها لا تسمعني. فقط، حين التقت عيناها بوجه الصورة المتألق صحّة وشبابا وحيوية، على طاولة السرير، يرمقها لا مباليا، أجهشت بالبكاء، وجرت خارج الغرفة. توالى الطرق على الباب. وانفتح البيت للقادمين ولمطلع نهار غائم، ماطر، كئيب..ومع ذلك، كان ضوء رحب شاسع، شفيف يدخل الغرفة..يعبــــــــــــر الجدران..يعبـــــــــــر الزمــــــــــان..يعبرنــــــــــــــــي..غمرتني راحـــــــــــــــــة مذهلة، لا توصف..وابتسم وجهي في الصورة للسكينة القادمة..وناداهم، قبل الرحيل..ولكنهم تركوني، وتركوا الصورة وحدها، تلتمع فيها العينان اللوزيتان الكحيلتان ببهجة النجاح، يوم التقطت الصورة، ساعة الإعلان عن فوزي بالجائزة الأولى. رفرف الفستان الربيعي بألوانه المشرقة وارتفع الجيد الأبيض الطويل رافعا الرأس إلى سماوات نشوة الروح، وارتفع التصفيق، وقتها، كما أنا الآن، أحسستني خفيفة، شفافة، كهبة نسيم. التقطت اللحظة التلفزات والإذاعات وعدسات المصورين وأصبحت الصورة تسكن قرب فراشي، تؤرخ ليوم التتويج، في أرقى مسارح تونس، شاهدة على صدق ديني. أليست الكلمات هي الخلاّقة الباقية ؟! هكذا كنت أومن يومها. اخترت للصورة إطارا فضيا على شكل كتاب مفتوح وأمسكت اللحظة الهاربة. ...أكانت تلك البداية ؟ .. أم كانت مجرد صفحة من أحد فصول رواية لم تكتمل ؟..رواية ركضت فيها خارج الشرع والقانون! عاد باب الغرفة ينفتح.. دخلوا..أحاطوا بي..عادت سناء ترفع عن وجهي الغطاء.. تدعوني لأنهض..تمسك يدي المصفرة بين يديها الصغيرتين وتبكي ناشجة. قلت لها : ـــ حبيبتي!..صغيرتي!..لاتجزعي!..أنا هنا..!..دوما معك! واحتضنتها..ظلت كما هي، خافضة الرأس، باكية، دون أن تجيب، كأنها لم تشعر بضمتي. وبينما كانوا يتحلقون حولي واجمين، ظلت الصورة وحدها دوما تبتسم، وألق الروح الجذلى في العينين المتحديتين دوما يضيء. وكهبة نسيم، شاهدتني أنسحب من الإطار..أخرج من الصورة..في غمرة اضطرابهم، مع ضجة الأمطار، وهدير البحر، وشبه ظلمة البيت، لم يلمحني أحـــــــــــــــــــــــــــد..لم يلمحني أحــــــــــــــــــــــــــد!
2
توقعت كل شيء في هذا الفجر الشتوي البارد، ورنين الهاتف يتوالى حادا منــــــــــــــــــــــــــــــذرا. انقبض القلب..اهتزت النوافذ بوقع الريح والمطر..توقعت كل شيء، إلا أن يكون الخبر قادما من مرفإ الذكرى وبالذات من هاتف بيتك..وليصعقني صوت الرجل في سماعة الهاتف : ـــ ..لقد تركت رسالة باسمك!..وأوصت بدعوتك! توقعت كل شيء في هذا الفجر الشتوي العاصف إلا أن أدعى إليك أنت، يا نجمتي التونسية الرائعة! يا نجمة قرطاج التي أعادت أصابعي المقطوعة إلي، وأذكت روائح عبقة قديمة، خلت الزمان اغتالها منذ نفيت! فلبيــــــــــــــــــك! لبيــــــــــــــــــــــــك يا عاشقــــــــــــــــــــــة الروح الشهية! يـــــــــــــــــــــا عـــــاشقــــــــــــــــة الكلمــــــــــات! لقد اخترتك بطلا لروايتي! سأعيد لك أصابعك المقطوعة على شواطئي! سأطفئ نيران السجائر المشتعلة في صدرك وأبدد الدخان الخانق أنفاسك وأكسر قناني النبيذ الحارق كبدك! سأغيّر إبرة بوصلة تقودك دوما إلى جسدي، تعتلي نظراتك رباه، تبحر فيه بغواية كلما جمعتنا صدفة. سأكتب بأصابعك روايتي القادمة. حين قرأت هذه الفقرة من نصّ لكِ في مجلة «فنون»، كيف لم أدرك أنها رسالتك المقنّعة إليّ، وأن الخيال سيتحول نبوءة تقودني الآن إلى مدينتك ؟ كنت أتصور أنه لعبك الجميل المدهش بالكلمات هو الذي يركض بقلمك على مساحات البياض، وأنا أذكر قولك ذات لقاء : من غيرنا يهدم العالم الموبوء، ويعيد البناء على هواه، ليشارك الله لذة الخلق؟ من غيرنا يعرف تلك اللحظات المؤلمة الصاعقة لذة؟ لنواصل إذن يا شاعري، مهما كان الدمار شاملا! لنمسك بتلك اللذة الخاصة الفريدة الخلاقة ترفعنا إلى السماوات المقدسة! ...هو ذا صوتك الرقــــــــــــــــــــراق الــــــــــــــــــــــــزلال الآســـــــــــــــــــــــر! يموج صداه في فراغ البيت.. ولكن، ما أعظم تلك الأوهام! فأي خلق يمكن أن يعوض الآن كل هذا الفقدان؟
*** كنت أشتهي هصرك بين ذراعي هصرا، والإغفاء على وسادة صدرك العامر. كنت أشتهيك وأحبك وأعشقك وأمتلئ بك وأذوب خواء بدونك، وأواصل غربتي المصقّعة بعيدا عنك وأنا أحلم دوما بلقاء قادم يؤجج نارا، لا تنير إلا بوجودك، خلتها ما عادت توقد دمي. وما كنت أدرك أن الحلم لن يقدم لي غير النهايات، لأعود إليك..إلى ذاكرة المدن التي تركتها للنسيان، تعيدني إلى البحر الذي رماني إليك، وإلى المرفإ الذي فتح المعابر الجديدة لسلاح أفتك من يدي. على عجل، لبست معطفي الجلدي الأسود وصفير حاد يثقب أذني، يمزق صمت الفجر الراحل. أخذت مفاتيح السيارة ونزلت راكضا الدرج. كآبة فادحة تغمر الشوارع الخالية. وهطل المطر المتواصل ينذر بالطوفان. أدرت المفتاح لتشغيل السيارة. تجمد محركها معلنا العصيان. ضغطت على دواسة البنزين محاولا مرات. أخيرا اشتغل المحرك، وانطلقت السيارة تحت وابل الأمطار. وأنت معي، كانت نسمة فجرية منعشة تهب من فجاج الغاب، ولكنها دوما تتسرب من يدي.. أقبل فتمضـيــــــــــــــــــــــن وأهمّ بك، فتدبريــــــــن وأنحني لألثم أصابع يدك الرشيقة الناعمة، فيجمّع عنبر زيتون خاتمك الفضي العتيق كل أحزان الأرض في وجهي ويرميني من جديد إلى غربتي. ومع ذلك، يظل نداء براق غامض في عينيك الواسعتين الكحيلتين يناديني، في الصمت والضجيج، في القرب والبعد وها هو يأتي، رهيبا نداؤك الأخير، عبر هاتف مفاجئ وصوت مكلوم. فأي سر في مدينة الذكرى تخفين؟ |