أجراس تتميز... بنت البحر حفيظة قاره بيبان جريدة الصباح 13 ديسمبر 2012 تجربة فريدة تلتقي فيها الفنون : الرواية والموسيقى
لأول مرة ، يرتفع على الركح الغنائي كتاب ترفعه يد موسيقي ، بينما اليد الأخرى تشد عوده . ولأول مرة يتحول بعض من رواية إلى أغنية يشدو بها فنان مبدع . وإذا المحمل أمامه ، حامل النوتة الموسيقية ، يصبح محملا لكتاب مفتوح . مشهد يبدو مدهشا خارقا ، إذ يحدث لأول مرة في تونس ، وربما في العالم العربي . من يجرؤ على ذلك ؟ من يجرؤ عليه غير فنان حقيقي يبحث عن التفرد ويخوض تجربة جديدة واثقا من قدرته على تطويع النص السردي المختار كما الشعري لأنغامه . ************** الفضاء ، النادي الثقافي الطاهر الحداد بتونس . والليل الشتائي ينزل على المدينة ، وثنايا المدينة العتيقة تقودني إلى النادي مساء الجمعة 7/12/2012 . الساعة السادسة موعد حفل مجموعة أجراس ضمن ندوة << من له الحق في الفن >> المقامة بالمكتبة الوطنية . الأضواء الهادئة المتناثرة في الفضاء العتيق على اللوحات في المدخل ، وعلى الأعمدة الحجرية العريضة ، الأنوار الملونة الخجولة حول الركح ، في أقصى القاعة على يمين المدخل ، صوت الكمنجة أو الشبابة يعلو حينا وينخفض حينا في تجربة أخيرة قبل العرض يستقبل الحضور النوعي القادم من الأساتذة الجامعيين مدرسي الفلسفة والفن وغيرهم من المشاركين . ********** أتقدم بارتباكي ، أنا الحاضرة بمفردي من عالم الأدب لحضور تجربة جديدة ، باحثة عن موقعي ومكاني في العرض الأول لهذه التجربة المشتركة . لم أنتبه إلى أن مبدع التجربة صاحب أجراس الفنان عادل بوعلاق كان أمام الركح الصغير خلف العمود الحجري العريض منشغلا بآخر التعديلات لأجهزة الصوت بينما كامل مجموعة أجراس في أماكنها على الركح الصغير تلفها أضواء سرية دافئة . افتتح العرض بتقديم فنان شاب من قدامى أجراس يعزف على الغيتار ويغني من كلماته مبشرا بتجربة مختلفة تحمل خصوصيتها كلمة وتلحينا ، لتليها أغنية مهداة للشهداء من كلمات الشاعر كمال بوعجيلة ، قرئت أولا من إحدى فتيات الكورال (إيناس) على خلفية موسيقية شجية يصاعد فيها الألم والغضب ويحتد فيها الصوت الأنثوي العميق شيئا فشيئا ويعلو بشجنه وغضبه مع إيقاع الموسيقى ، قبل أن يلين النغم الحزين ، ليرتفع صوت الفنان عاليا مغنيا كلمات القصيد . حان بعدها موعد التجربة المشتركة . وقف قريبا من الجمهور أسفل الركح الفنان عادل بوعلاق حاملا عوده ، ليفاجئني برفع كتاب في يده مخاطبا الحاضرين : << لأن أجراس تعمل على البحث والتجريب ، نقدم لكم هذه التجربة وواصل مقدما رواية العراء >> . لحضة صمت ترقب فيها الجمهور المفاجأة ... أي فنان هذا ؟ يرفع كتابا على الركح لجهور ينتظر الغناء؟! إنه لا شك فنان مختلف ، عميق الوعي بدور الفنان ، لا يستمد قوته فقط من الموهبة ، بل من ثقافته ورؤيته العميقة لمعنى الفن ودوره في السمو بالإنسان . *********** من الركح ، نزلت صاحبة الصوت الدافئ العميق << إيناس >> قارئة قصيد الشهداء . إلتقينا معا لنقف أمام الحاضرين ، بين حامل العود وعازفة الشبابة ، لتقديم مشهد حواري قصير بين المذيعة والشاعر الفلسطيني المهجر من بيروت إلى تونس غسان سلمان ولأكون الراوية بينما تغيب الموسيقى وتصمت الآلات ، إذ تسأل المذيعة غسان : - هل من شبه بين بحر قرطاج وبحر حيفا ؟ شيئا فشيئا ، يأتي اللحن الحزين مع بوح الشاعر . يرتفع بعدها النغم ينضح باللوعة والحنين تصحبه آهات الكورال . - في وجه الشاطئ صرخت يوما ... يقول غسان ( عادل ) . تعلو الموسيقى ويرتفع صوت المغني الأوبرالي عاليا موجوعا ببوحه واعترافه هادرا بلوعة المقتلع من أرضه وبحره ودنياه ، قبل أن تنخفض الموسيقى ويعود إلى مناجات حيفا بلحن مليئ بالحنين واللوعة . كان الفنان عادل بوعلاق قد إنفرد وقتها بالمشهد بعد عودة إيناس إلى الكورال ، لتتواصل الأغنية الجديدة القادمة من الرواية ، بلوعة الموسيقى المنسابة مع آهات الكورال وأنين الكمنجات وحنين الشبابة ، بينما أوتار العود تحت أصابع عازفها الغاضبة حينا ، والحانية المرتعشة شوقا حينا آخر ، تردد أصداء موج البحر الواصل بين حيفا وقرطاج . *************** ظل النغم الجديد المستوحى من الرواية يتردد صداه أياما بعدها في الأعماق مؤكدا مدى تأثير الموسيقى الصادقة في الإنسان . *************** توالت الأغنيات والألحان بعدها ، تلك التي أحبها جمهور أجراس من <<شات>> إلى <<نسائم ثلج>> إلى <<جدارية محمود درويش>>. وظل الكتاب لا ينزل عن المحمل يصاحب الموسيقى الحاملة عبير الهند ، والنائحة أو المزغردة بأصوات نساء الأرياف البعيدة. بعد خروجنا من حفل أجراس ظلت متعة الفن تسكن أرواحنا إذ قطفنا شيئا من الفرح وتحررنا من أسر دنيانا . ومع ذلك لم تغب عن البال الأسئلة الحارقة : -أين الأقراص والاشرطة المسجلة لتجارب مجموعة أجراس في الأسواق ؟ ولما لا تتيسر السبيل لفنانينا المتميزين إلا عندما يضطرون إلى الفرار منا إلى الشرق أو الغرب ؟ - ألسنا في حاجة إلى استعادة تلك الألحان المتميزة ونشرها إذ تشدو بآلامنا وتحنو على جراحنا وترفعنا إلى عوالم المتعة والفن الراقي والشافي معا ؟ - وأين هو الإعلام الراكض خلف الخصومات والظلمات ، الغائب عن مواطن الضوء والإبداع متناسيا أننا بالثقافة وبالفن نسمو ونكون كما يقول شاعر الحكمة الهندي طاغور ؟ رغم ذلك تحفر أجراس بقيادة الفنان عادل بوعلاق طريقها البكر المتميز وتعدنا دوما بمتعة راقية نستعيد بها الأمل في غد أجمل . * العراء رواية بنت البحر- دار نقوش عربية -2012
|